كشفت أحداث العيون مؤخرا عن مغرب قوي ومتماسك في إيمانه بقضاياه الوطنية، وعن مغاربة أشاوس تلقائيون في التضحية ذودا عن ثوابتهم المقدسة ، وهو ما انبهر له الرأي العام الدولي بعد المسيرة ثلاثية الملايين والحركات الاحتجاجية الشعبية الواسعة بمختلف أقاليم المملكة ، مخلفا في نفس الوقت استياء وحنقا لدى الأعداء الألداء، ظنا منهم أن بالرغم من فتوة ديموقراطيتنا وفتوة مسيرتنا التنموية يمكن لبلبلتهم وشغبهم زعزعة إيمان بعض شرائح مجتمعنا المتضررة واسترضاء بعض فرق اليسار المغربي المحسوبين على رؤوس الأصابع الخارجين على الإجماع الوطني.
لقد تبين أن عفوية انخراط المغاربة في الدفاع عن مقدساتهم الوطنية و عدالة قضاياهم تفصح في حقيقة الأمر عن عمق طيبوبة الشعب المغربي، وصدق مشاعره الوطنية العميقة، وإيمانه هذا برز بشكل واضح في حراكه الاجتماعي المليوني بالداخل والخارج، وإعلانه عن تجنده وتأهبه لمواصلة النضال من أجل إقناع الرأي العام بصواب مواقفه وعدالة قضاياه والتصعيد في دحض وتفنيد أطروحة خصومه.
لقد أضحى ضروريا وملحا لدى الرأي العام الوطني جمع شتات الجبهة المجتمعية الداخلية: الحزبية منها والنقابية وجمعيات المجتمع المدني والعمل على تقوية لحمتها وصهر أواصر الرباط السياسي المقدس فيما بين الجميع، شقا لطريق التحدي في بناء مغرب العقد السادس وراء جلالة الملك محمد السادس رمز الوحدة الوطنية، حيث أن جلالته انتفض منذ توليه الحكم على ماضي البلاد في العديد من المجالات الحيوية، وجاء مرسخا لقيم جديدة تروم الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي، كالمفهوم الجديد للسلطة والمصالحة الوطنية وسياسة القرب وإنماء المغرب غير النافع ونشر قيم التضامن والتكافل الاجتماعي، وهي قيم تشق فعلا طريقها بصعوبة على أرض الواقع المغربي المتردي، بمساعدة الحكومات المتعاقبة، وخاصة حكومة الأستاذ عباس الفاسي التي تحقق منجزات تنموية هامة وغير مسبوقة على مختلف المستويات الاجتماعية والاقتصادية رغم ظرفية الأزمة العالمية الصعبة.
لا يحول الجهد التنموي الإيجابي أعلاه من الإشارة إلى نقط داكنة على مستوى المشهد السياسي الفتي، حيث أن عاهل البلاد تعهده في أكثر من مناسبة بتطهير المشهد السياسي وتنقية ما به من شوائب وفيروسات وافدة، تحفيزا على تعاطي المغاربة وخاصة الشباب منهم للعمل السياسي تدبيرا للشأن العام المحلي والوطني، وهو ما تأسف له الجميع ملكا وحكومة وشعبا، حيث تعذر إقرار ديموقراطية انتخابية حقيقية ونزيهة، وخاصة بعد بروز كائنات سياسية جديدة مسندة ومدعومة من الإدارة ومقربة منها، اقتحمت فضاء السياسة والانتخابات وتربعت بقدرة قادر على صدارتها، مما أفقد الشأن السياسي عذريته ومصداقيته، مما ترتبت عنه بالتالي خصومات ومعارك كبرى فيما بين القوى السياسية، وتكونت معه قناعة لدى المغاربة بأن الصناديق الانتخابية لم تعد كافية بمفردها في إفراز نخبة حقيقية ديموقراطية تمثل شرائح المجتمع المغربي وهو ما أبعدهم عن المشاركة السياسية وأحدث هوة كبرى فيما بين القوى السياسية الحقيقية والمصطنعة من الصعب التقريب فيما بينها واصطفافها جميعا على قدم المساواة في صف واحد لتمثيل الجبهة الداخلية.
لقد أصبح من الضروري معاملة كافة المغاربة على قدم المساواة ومصارحتهم بحقيقة الأمور، حيث أن عهد التمييز فيما بينهم هو زمن ولى انتهى، حيث من الصعب أن تتم تعبئة جميع المغاربة للانخراط في مسيرة النضال والتحدي وبعضهم يعيش نوعا من التهميش والإقصاء من دوائر ضيقة تسودها معايير غريبة كمعيار الانتماء إلى الدائرة المقربة لجلالة الملك، أو القرابة لرجال السلطة أو لأغنياء البلاد أو أعيان وشيوخ بعض القبائل بالشمال أو بالجنوب، مما تبدو معه مسيرة النماء شاقة ما لم يسمح لجميع المغاربة بالاستفادة من خيرات الديموقراطية الفتية، ويسمح أيضا لمغاربة المغرب العميق بنصيب من ثمرات المبادرات التنموية الحديثة، حيث طالما انتظروا قدوم التنمية إليهم بعد توجهها إلى كل من أقصى الجنوب وأقصى الشمال، ولم يلتفت المغاربة إلى هذا مغرب الظل هذا بجبال الريف وجبال الأطلس وتخوم الصحراء الشرقية إلا بعد زيارات ملكية ميمونة لها في أوج الظروف الشتوية القاسية.
كان الله في عون ملك البلاد وحكومته بشأن ترصيص وتقوية الجبهة الداخلية التي لا تزال تعرف بعض الشرخ على المستوى السياسي فيما بين فاعليها السياسيين ، مما بات ضروريا معه اضطرار لجوء الدولة إلى القيام بإصلاحات سياسية ودستورية جريئة يتم فيها الاتعاظ من النواقص التي تورطت فيها الإرادة تفاديا لتكرار سيناريوهات الماضي البغيض، والاحتكام الموضوعي إلى إرادة الشعب المغربي في الاستحقاقات الانتخابية، وخاصة الاستحقاق الانتخابي المقبل في 2012 ، والذي سيكون فيصلا حقيقيا بين القوى السياسية ووزن كل منها في المشهد السياسي المغربي، علما أن المعركة الشرسة فيما بين هذه القوى انطلقت بشكل مبكر، مما يحتمل معه عند افتقاد الموضوعية والحياد والنزاهة توقع ما لا تحمد عقباه، برهن المغرب وجره إلى عهد سنوات الركود والجمود في ظل ظرفية دولية صعبة، لا يزال المنتظم الدولي يسجل علينا عدم قدرتنا على عقلنة وترشيد المشهد السياسي.
جريدة العلم