تعد سنة 2011 إحدى السنوات الأكثر غموضا على
المستوى السياسي، والمفتوحة على المجهول المخيف بعد إفلاس المشهد السياسي وفشل
الفاعل السياسي في تخليق الحياة السياسية وتطهيره مما شابه من فساد مؤخرا، حيث يسجل
علينا الرأي العام الوطني والدولي تجرأ الإدارة على التدخل لصالح بعض الأطراف
خلخلةً لموازين القوى، مما ترتب عنه تعثر واضح وتراجعٌ بيّنٌٌ حتى على بعض مكتسبات
بداية العشرية السابقة أثناء انطلاق عهد التناوب الديموقراطي، مما يجعل كل المشهد
السياسي في كف عفريت، بعد تنفير ثلثي المغاربة عن المشاركة السياسية بأكبر نسبة
عزوف في التاريخ وبفقدان الثقة في المؤسسات المنتخبة وتراجع القيم الوطنية
والديموقراطية النبيلة.
لقد شهد الحقل
السياسي في الاستحقاقات الانتخابية الأخيرة:التشريعية المباشرة وغير المباشرة
والمحلية تجاوزات مؤلمة، لم تقو على معالجتها لا المنظومة القانونية الانتخابية ولا
إشارات المؤسسات الدستورية العليا الصارمة ولم يقو حتى القضاء على الحسم فيها
جميعا وزجر منازعاتها، حيث منذ إنزال الوافد الجديد إلى الساحة السياسية بقيادة كاتب
دولة سابق في الداخلية سجل الرأي العام الوطني تراجعا خطيرا على مستوى القيم
السياسية الوطنية والمكتسبات الديموقراطية، لكون الوافد ميّع ولوّث البيئة
السياسية، بتشجيعه للترحال في رحلتي الشتاء والصيف وتهديده لصغار وكبار المنتخبين والأعيان
وذوي السوابق بالانتماء إلى صفوفه، وإفتاءه في القضايا السياسية الكبرى وخلخلة بعض
الثوابت الوطنية، وتخويفه لرجال السلطة من أجل العناية به ومده بالدعم اللازم،
وإقحام الإدارة في ذلك من خلال حثها على ابتعاث لجان التفتيش وتفعيل مساطر
المتابعة والمحاسبة ضد مزعجي الوافد الجديد.
صحيح
أن المغرب يشهد مسيرة تنموية اقتصادية واجتماعية ناجحة، بتحقيقه لمؤشرات تنموية هامة
في ظل تداعيات الأزمة العالمية والكوارث الطبيعية الخطيرة، لكن بالرغم من هذه
المكتسبات التنموية نسجل على أنفسنا وتسجل علينا المنظمات الدولية انتكاس الشأن السياسي،
حيث بعد ترقب الأحزاب الوطنية لانتهاء مرحلة التوافق الوطني حول عملية الانتقال
الديموقراطي ، بدأ الجميع يشكك في صدقية مقولة انتقال ديموقراطي حقيقي وجاد، في ظل
وضع دستوري منغلق، مما يطرح تساؤلات كبرى بشأن مآل الأوضاع السياسية بالمغرب ومآل
ورش الإصلاح والتغيير على المدى القريب والمتوسط، خاصة بعدما سجل الجميع ان ثورة
الفل والياسمين بتونس ومصر تلح اليوم على إصلاح دستوري حقيقي، مال
بات معه بديهيا بالمغرب أمام هذا الاحتقان
السياسي الاستجابة للمطلب القديم للأحزاب الديموقراطية المتعلق بتنزيل جيل جديد من
الإصلاحات الدستورية والسياسية التي طال انتظارها.
إن الأعطاب والاختلالات التي مست مشهدنا السياسي
من الصعب أن تصلحها الوتيرة البطيئة لبعض الروتوشات الإصلاحية السياسية ،كمراجعة
القانون الانتخابي مثلا بتعديلات محدودة على مستوى نمط الاقتراع أو التقطيع أو
نسبة العتبة أو كوطا النساء أو غيرها، بل كيفما كانت حتى نتيجة الانتخابات
التشريعية ذاتها المقبلة وطبيعة المجالس البرلمانية المنتخبة بل كيفما كانت طبيعة
الائتلاف الحكومي المقبل، فالظرفية أدق من ذلك بكثير، حيث أن الإشكال السياسي
المطروح اليوم هو مشكل أكثر عمقا، لكونه يتطلب إصلاحات دستورية وسياسية هامة تخرج
البلاد من نفق مغرب تقليدي إلى مغرب ديموقراطي عصري،متمسك بثوابته الأساسية دون التلويح دائما بشعار
مراعاة الخصوصية المعرقلة للانفتاح وللتطور الديموقراطي الحتمي .
إن المشرع الدستوري مطالب اليوم بالقيام بخطوة
استباقية على المستوى الدستوري، سدا للخَواء والثقب الأسود في المشهد المغربي، واستجابة
لإلحاحية الأحزاب الوطنية بهذا الشأن منذ المطالب الأولى لأحزاب الكتلة
الديموقراطية في بداية التسعينيات، تعبيرا عن مطالب الشعب المغربي الذي يثوق إلى
فضاء ديموقراطي سليم وعادل.
إن الإجابات الدستورية عن مطالب الشارع المغربي
لن تتحقق ما لم تتم مراجعة قضايا دستورية أساسية، كإشكالية مبدأ فصل السلط
والأجيال التنموية لحقوق الإنسان، لكون المغاربة سئموا وفقدوا ثقتهم في مؤسسة
برلمانية ضعيفة الاختصاصات وعاجزة عن القيام بمهامها الأساسية، من اقتراح للتشريع
ومراقبة العمل الحكومي، وغير مقتنعين بمراس دستوري ينتج دوما وأبدا مؤسسات حكومية
ضعيفة ذات ائتلافات فسيفسائية مُهلهَلة ومُعَرقِلة وغير متضامنة، وبمؤسسة وزير أول
فاقدة لسلطاتها الأساسية والحقيقية أمام المؤسسات الملكية والبرلمانية والإدارية
وغيرها، كما أننا مقتنعون جميعا اليوم بأن المغرب لم يحظ بعد بسلطة قضائية مستقلة،
وغيرها من الأعطاب الدستورية والسياسية التي الجميع يراهن على جلالة الملك بأن
يبادر إلى فتح نقاش وطني جاد بشأنها.
في
ظل تطور الديموقراطيات الغربية والشرقية المرسخة لمشاركة شعبية أوسع، وفي ظل ترسيخ
مبدأ المساءلة السياسية ومحاسبة المسئولين مُدَبّري الشأن العام، وفي ظل تفعيل
مبدأ إشراك أوسع للمجتمع المدني في تدبير الشأن العام، ثمة منابر سياسية انتهازية تُسَوّقُ
لخطاب يؤول بالدفع إلى اعتماد نظام سياسي ذي ملكية تنفيذية مباشرة، تعمل على تجميع
أكبر عدد ممكن من السلط في يد رئيس الدولة، بعد تسويقها لشعارات:ضعف الأداء
البرلماني وتبخيس العمل الحكومي، وترهل العمل الحزبي والنقابي، علما أن نظامنا
الدستوري يقر بأن مؤسسة جلالة الملك تسمو على باقي
المؤسسات الدستورية، وأن جلالته هو حَكَمٌ فوق الجميع.
إن تلك المنابر الدعائية لا تُقَدّر الظرفية حق
قدرها، في ظل الانتفاضات الشعبية التي تطالب اليوم بتمتيع الشعوب ونوابها بأكبر
قسط من الصلاحيات الدستورية، إذ لن يكون من شأن إسناد سلطات تنفيذية إلى المؤسسة
الملكية سوى ترتيب المساءلة السياسية على المؤسسة الملكية، كما أن ذلك سيكون على
حساب باقي المؤسسات الدستورية المنتخبة الأخرى وعلى حساب المؤسسة الحكومية.
لقد أصبح متعارفا
عليه دستوريا أن المؤسسة الملكية هي المبادرة دوما إلى طرح مشروع الإصلاح الدستوري
على أنظار الأحزاب السياسية، مما تبقى معه الأنظار مشرئبة إلى جلالة الملك محمد
السادس لتنزيل دستور سادس، يؤول إلى انفراج الانفجار السياسي المتكهن به ويخفف من
احتقان المشهد السياسي، وهو ما طال انتظاره بدون جدوى في ظل مبدأ المفهوم الجديد
للسلطة