الحمد لله ربّ العالمين , و الصلاة و السلام على نبينا محمد و على آله و صحبه أجمعين.
مِن
النِّعَم التي أنعمها الله – عزَّ و جلَّ – علينا , نعمتي العقل و الكلام
, و لهذا اهتم الإسلام بموضوع الكلام , و أسلوب أدائه , لأنَّ الكلام
الصادر عن إنسانٍ ما , يشير إلى حقيقة عقله , و طبيعة خُلُقِه .
و
قد بيّن الإسلام كيف يستفيد الإنسان مِن هذه النعم , و كيف يوظِّفُها ,
لنشر الخير بين المسلمين , فينبغي أن يسأل نفسه قبل أن يتحدث للآخرين ,
فإنْ كان هناك ما يستدعي الكلام , تكلم , و إلا فالصمت و السكوت أولى له ,
و إعراضه عن الكلام حيث لا ضرورة له , أسلم له مِن الخوض فيه .
كما قال – صلى الله عليه و سلم -:" مَن كان يؤمن بالله و اليوم و الآخر , فليقل خيراً أو ليصمت "
( متفق عليه )
و المسلم لا يستطيع هذا , إلا إذا ملك لسانه و ضبطه , و ترك ما لا يعنيه , كما قال – صلى الله عليه و سلم - :
" مِن حُسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه " ( رواه الترمذي و الحديث حسن )
فإذا خُيِّرتَ بين الكلام و السكوت , فعليك بالسكوت , إلا في إحقاق الحق ,و إبطال الباطل .
قال
الإمام الشافعي – رحمه الله - : " إذا أراد المرء أن يتكلم فليفكر , فإذا
ظهر أنَّه لا ضرر عليه تكلم , و إن ظهر أنَّ فيه ضرراً , و شك فيه أمسك "
( شرح النووي 2 / 19 )
و المرء حين يريد أن يستجمع أفكاره , و
يراجع أعماله , يَجنَح إلى الصمت , و هذه وسيلة ناجعة مِن وسائل التربية
الخُلُقية , بل هذه صدقة تصدق بها الإنسان على نفسه , لقوله – صلى الله
عليه و سلم - :" كُفَّ شرَّك عن الناس , فإنها صدقة منك على نفسك " ( رواه
الإمام أحمد و الحديث صحيح )
فعلى المسلم أن يفكر جيداً , قبل العجلة
في الكلام التي يعقبها الندامة , فحينئذٍ لا تنفعه , و هذا مِن الشيطان ,
لقوله – صلى الله عليه و سلم - :" التأني مِن الله و العجلة مِن الشيطان "
( رواه البيهقي و الحديث حسن )
قال ابن القيِّم – رحمه الله - :"
و العجلة , طلبُ أخذ الشيء قبل وقته , فهو شدة حرصه عليه , بمنزلة مَن
يأخذ الثمرة قبل أوان إدراكها .... و لهذا كانت العجلة مِن الشيطان ,
فإنها خفّة و طيش و حدة في العبد , تمنعه مِن التـثبُّـت , و الوقار و
الحلم , و تُوجب له وضع الأشياء في غير مواضعها , و تجلب عليه أنواعاً مِن
الشرور , و تمنع أنواعاً مِن الخير , و هي قرين الندامة , فقَلَّ مَنْ
استعجلَّ إلا ندم , كما أنَّ الكسل قرين الفوت و الإضاعة "
( الروح ص 258 )
و الإنسان مطبوع على العجلة , لقوله تعالى :" وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً"
(11سورة الإسراء)
قال الإمام الشوكاني – رحمه الله - :" مطبوعاً على العجلة " ( فتح القدير 3 / 299 )
و
المطلوب مِن المسلم و خاصة طالب العلم , استقامة لسانه حتى لا يقع في
اللغظ و كثرة الكلام ’ الذي لا فائدة منه , بل قد يجلب له الشرور و
المفاسد , كما قال – صلى الله عليه و سلم - :" لا يستقيم إيمان عبد , حتى
يستقيم قلبه ,ولا يستقيم قلبه , حتى يستقيم لسانه " ( رواه الإمام أحمد و
الحديث حسن )
و طول الصمت أسلم مِن كثرة الكلام , و هذا مِن حسن
الخلق , لقوله – صلى الله عليه و سلم - :" عليك بحسن الخلق , و طول الصمت
, فوالذي نفسي بيده ما تجمَّل الخلائق بمثلهما " ( رواه البيهقي و الحديث
حسن )
و لقوله – صلى الله عليه و سلم- :" عليك بحسن الكلام و بذل الطعام " ( رواه الحاكم و الحديث صحيح )
و
أهل العجلة , لضعف بين عقولهم و نطقهم , يرسلون الكلام على عواهنه , فربما
قذفوا بكلمة سببت لهم الشقاوة و التعاسة , و قلة المهابة بين الناس .
و
الكلام الحَسَن مع الآخرين يحفظ مودتهم , و يستديم صداقتهم , و يمنع كيد
الشيطان أن يفسد ذات بينـهم , لقوله تعالى :" وَقُل لِّعِبَادِي
يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ
إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا"
(53 سورة الإسراء)
كما
أنَّ حسن الكلام مع الأعداء , يطفئ خصومتهم , و يكسر حدتهم , أو على الأقل
, يوقف تطور الشر منهم , لقوله تعالى :" وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ
وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي
بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ"
(34 سورة فصلت )
و
قد يتعرض المرء لإنسان بذيء اللسان , قليل الأدب , صاحب خلق ذميم , ففي
هذه المواقف على المسلم أن يضبط نفسه أمام عوامل الاستفزاز , و منعها
طوعاً أو كرهاً مِن الاستسلام لدواعي الغضب و إدراك الثأر , حتى يضيِّع
الفرصة على أصحاب هذه الأخلاق السيئة , و خاصة إذا ابْتُليَ طالب العلم
بمثل هؤلاء , لأن طالب العلم يحاسبه الناس على كل زلَّة , أو هفوة , فكن
على حذر مِن هذا .
و قد فشا في عصرنا هذا مجالس للناس يتجاذبون فيها
أطراف الحديث , و يقضون أوقاتهم في تسقُّط الأخبار , و تتبع العيوب , و
القيل و القال , و هذه آفات أصابت المجتمع , و قد كثُرت هذه المجالس ,
لغير ضرورة شرعية , و هذا الصنف من الناس لا يقف عند هذا الحد , بل يباهي
به, و يستطيل على أعراض المسلمين .
فهذا الفريق الثرثار , المتقعِّر في الكلام , مِن أبغض الناس لرسول الله – صلى الله عليه و سلم – لقوله :
" ... و إنّ مِن أبغضكم إليَّ , و أبعدكم مني يوم القيامة الثرثارون و المتشدّقون و المتفيهقون "
( رواه الترمذي و الحديث صحيح )
" الثرثار ": كثير الكلام تكلفاً .
" المتشدق ": المتطاول على الناس بكلامه , و يتكلم بملء فيه تفاصحاً , و تعظيماً لكلامه .
" المتفيهق ": هو الذي يملأ فمه بالكلام , و يتوسّع فيه , و يغرب به تكبراً و ارتفاعاً و إظهاراً للفضيلة على غيره .
فيا
طالب العلم : لا تتعجل في الكلام و إصدار الأحكام مِن قبل أن تعرضه على
عقلك و الشرع, فان وافق الحق و ترتب عليه مصلحة , فلك أن تتكلم ,و إنْ
خالف الحق و ترتب عليه مفسدة , فلا تتكلم , و الصمت أسلم و أولى لك .
و إيّاك و مجالس الشيطان , مجالس الغيبة و النميمة, و القيل و القال , و إضاعة الوقت فيما لا فائدة فيه .
و
إياك أن تكون مِمَّن يحبون الانتصار لأنفسهم , و أهوائهم , و هو عندهم أهم
مِن إظهار الحق بحسن الكلام , و هذه يعدّها الإسلام خطراً على الدين و
الفضيلة . فالمسلم لا يسوغ له أن يفقد خُلُقه مع مَن لا خلق لهم .
و
طالب العلم يلتزم في أحواله كلها , على ألاّ تبدر منه لفظة نابية , و
يتحرّج أن يكون سفيهاً أو متطاولاً على الخلق , و بقدر تنزّه المسلم عن
اللغو و الثرثرة , تكون درجته عند الله أعظم .
فاجعل رابطة قوية
بين عقلك و كلامك , حتى لا ينحدر منك الكلام متتابعاً , فيكون هناك
انفصالاً بين عقلك و كلامك المسترسل , لأنّ اللسان السائب حبل مرخي في يد
الشيطان , يصرّف صاحبه كيف يشاء .