مقدمة
إن الزواج هو أكثر مواضع الأحوال الشخصية التي تثير النزاع والخلاف بين الدول، نظرا لاختلاف فكرة الزواج من بلد لآخر ، واختلاف شروط وشكل انعقاده وآثاره وانقضائه. فقد يكيف قانون دولة معينة العلاقة التي تكون بين رجل وامرأة على أنها علاقة زواج في حين يرها قانون دولة أخرى علاقة غير مشروعة، فمثلا زواج المسلمة بغير المسلم يراها القانون الفرنسي علاقة زواج شرعية ترتبها آثارها، في حين أنها تعتبر علاقة غير شرعية، وسمتها مدونة الأسرة بالزواج الباطل .
- ولكي ينعقد الزواج صحيحا لابد أن تتوفر شروط موضوعية وشروط شكلية، فوفق أي قانون تتحدد هذه الشروط؟
- وما هي آثار الزواج؟ وهل تمتد آثاره إلى المال أم تنحصر في الأشخاص فقط؟ وما هو القانون الذي يحكم كل نوع من الآثار؟
- وهل يطبق القانون الأجنبي بكل مقتضياته أم يتم استبعاد بعض منها؟
هذه الإشكالات سأتناولها من خلال المباحث التالية:
- المبحث الأول: الخطبة
- المبحث الثاني: الشروط الموضوعية والشكلية للزواج
- المبحث الثالث: آثار الزواج
المبحث الأول: الخطبة
سأتناول في هذا المبحث المطالب التالية:
- المطلب الأول: الطبيعة القانونية للخطبة
- المطلب الثاني: القانون الواجب التطبيق على الخطبة
- المطلب الثالث: استبعاد القانون الواجب التطبيق
المطلب الأول: الطبيعة القانونية للخطبة
الخطبة مقدمة للزواج، فهي إظهار الرغبة في الزواج وليست بزواج، ولقد جاء في الفقرة الأولى من المادة الخامسة من مدونة الأسرة أن: (( الخطبة تواعد رجل وامرأة على الزواج)).
فهي وسيلة للتعارف بين الخطيبين، وليست التزاما قانونيا يتمتع بقوة إلزامية تلزم الطرفين معا، فمجرد الوعد لا ينشئ التزاما، وهذا هو الذي عليه الشريعة الإسلامية. ولو اعتبرت الخطبة عقدا ملزما بإجراء عقد الزواج مستقبلا لفقدت وظيفتها والغاية من أصل تشريعها، لأنها ما شرعت إلا ضمانا لحرية الزواج لا للالتزام به ولا للإكراه عليه.
غير أن هناك نظما قانونية تعتبر الخطبة عقدا حقيقيا له قوته الملزمة وتترتب عليه آثاره.
وهذا الاختلاف ناتج عن التكييف الذي يعطى للخطبة، فمن اعتبرها مجرد وعد بالزواج لم يعتبرها التزاما قانونيا، وبالتالي لا تترتب على عاتق من يعدل أو يرجع عنها أية مسؤولية، أما من اعتبرها عقدا ملزما فإن العدول عنها يلقي على عاتق العادل مسؤولية عقدية.
وهذا الاختلاف له أثره في تحديد القانون الواجب التطبيق على الخطبة في حال تنازع القوانين على ما سنرى في المطلب الثاني.
المطلب الثاني: القانون الواجب التطبيق على الخطبة
ولتحديد القانون الذي تخضع له الخطبة، فإنه يجب معرفة ما إذا كانت تعتبر من الأحوال الشخصية أم لا ؟
ولقد انقسم الفقه في هذا على نفسه، فذهب رأي إلى أن الخطبة تدخل في إطار الأحوال الشخصية، فتخضع بذلك للقانون الشخصي من حيث الموضوع ولقانون محل إبرامها من حيث الشكل. وإلى جانب هذا الرأي هناك رأي يرى أن الخطبة ليست من الأحوال الشخصية، لأنها لا ترتب أي التزامات شخصية بين الطرفين، وبالتالي فإنها تخضع لقاعدة الإسناد العامة في العقود، أي أن تخضع لقانون الدولة التي تحدث فيها.
أما عن القانون المغربي فإنه لم يتعرض للقانون الذي يحكم الخطبة، لذا يتعين الرجوع للقواعد العامة، وبما أنه تناول الخطبة في مدونة الأسرة فإنه اعتبرها من الأحوال الشخصية، وبالتالي فهو يخضعها لقانون جنسية الخطيبين طبقا للفصل الثالث من ظهير الوضعية المدنية للأجانب الذي جاء فيه:" تخضع حالة الفرنسيين والأجانب الشخصية وأهليتهم لقانونهم الوطني".
فإذا كان الخطيبان من جنسية واحدة فلا إشكال، أما إن كانا من جنسيتين مختلفتين فهنا تظهر صعوبة التطبيق، علما أنه إذا كان أحد الخطيبين مغربيا فإنه يتعين تطبيق مدونة الأسرة المغربية.
ولتحديد كيفية إعمال القانون الواجب التطبيق، يجب أن نميز بين المسائل التالية: شروط الخطبة والعدول عن الخطبة وآثار الخطبة.
الفقرة الأولى: شروط الخطبة
بالنسبة للشروط الموضوعية المتمثلة في تحديد من تحل بينهما الخطبة، ومن تحرم بينهما بسبب النسب أو المصاهرة أو الرضاع أو خطبة المتزوجة أو المعتدة أو المخطوبة، فإنه وفق الفصل الثالث من ظهير الوضعية المدنية للفرنسيين والأجانب تخضع الشروط إلى قانون جنسية الطرفين، لكن هذا الفصل لم يبين الطريقة التي يطبق بها قانون جنسية الطرفين في حالة اختلاف جنسيتهما، هل يخضعان للقانونين معا، أم يخضع كل طرف إلى قانونه؟ بحيث يجب أن تتوفر في الخاطب الشروط الموضوعية التي ينص عليها قانونه، وأن تتوفر في المخطوبة الشروط التي ينص عليها قانونها.
ولكي تتحقق الخطبة في حالة ما إذا كان أحد الطرفين مغربيا أي مسلما لا بد من توفر شروط هي:
- إذا كان الخاطب أجنبيا لا بد أن يكون مسلما، فخطبة غير المسلم للمسلمة حرام.
- إذا كانت المخطوبة أجنبية لا بد أن تكون من أهل الكتاب، إذا كان الخاطب مسلما.
- وأن لا تكون المخطوبة معتدة.
- ولا تجوز الخطبة على خطبة آخر.
لكن يجب التنبه إلى أمر مفاده أن الأجنبيين مختلفي الجنسية قد يكون أحدهما مسلما، لذا ينبغي أن تطبق مدونة الأسرة المغربية باعتبارها قانونا إسلاميا، لأن مخالفة الشرع الإسلامي من صميم مخالفة النظام العام للدولة.
أما بالنسبة للشروط الشكلية للخطبة، أي الصيغة التي تتم فيها وإجراءاتها فإنها تخضع لقانون الدولة التي تتم فيها وفق الرأي الغالب في الفقه، وهناك من يرى أنه لا مانع من خضوع الشكل لقانون الموطن المشترك للطرفين أو لقانونهما الوطني المشترك.
الفقرة الثانية: العدول عن الخطبة
الاختلاف بين النظم القانونية في تحديد القانون الذي يحكم آثار الخطبة يؤثر كذلك في تحديد القانون الذي يحكم العدول عنها، ويؤدي إلى الاختلاف في تحديد الآثار الناتجة عن هذا العدول.
فبعض الفقه يرى خضوعه لقانون كل من الطرفين، واختلف هذا الفريق في الكيفية التي يطبق بها القانون إذا كان الطرفان من جنسيتين مختلفتين، ففريق يذهب إلى تطبيق قانون الطرفين تطبيقا جامعا بأن يخضع الخاطب لقانونه وقانون المخطوبة وتخضع المخطوبة لقانونها وقانون خاطبها. ويرى الفريق الآخر خضوع كل طرف لقانونه وهذا هو التطبيق الموزع.
ويخضع اتجاه آخر العدول إلى قانون الخاطب، بينما هناك من يفضل تطبيق القانون الوطني للعادل عن الخطوبة سواء كان هذا العادل هو الخاطب أو المخطوبة.
وهناك من يفرق بين العدول في حد ذاته وبين الآثار التي تترتب عن العدول، فيرى إخضاع العدول إلى القانون الذي يحكم الخطبة، أما النتائج التي هي عبارة عن أضرار تتولد عن أعمال ملابسة للخطبة فإنها تخضع للقانون المحلي.
والاختلاف في تحديد القانون الذي يحكم العدول عن الخطبة يؤدي إلى الاختلاف في تحديد الآثار التي تنتج عن العدول.
والثابت في الشريعة الإسلامية أن الخطبة مجرد وعد بالزواج يحق لكل واحد من الطرفين العدول عنه، ولا يترتب عن هذا العدول أي أثر ما دام لم يحصل عقد. فإذا دفع الخاطب للمخطوبة المهر فله استرجاعه لأنه لا يستحق شيء منه إلا بالعقد، أما عن الهدايا فقد اختلف فقهاء المذاهب في ردها، فمثلا المالكية يفرقون بين ما إذا كان الرجوع من طرف الخاطب أو من طرف المخطوبة، فإن كان الرجوع من جهة الخاطب فللمخطوبة استرجاع ما قدمت من هدايا للخاطب، وإن كان الرجوع من طرفها فله استرجاع ما قدم من هدايا، إلا لعرف أو شرط. وإن كان من يرى أن الأصل في المذهب هو عدم استرداد الهدايا سواء كان الرجوع من جهته أومن جهتها.
أما مدونة الأسرة فقد اعتبرت أن لكل واحد من الطرفين الحق في العدول عن الخطبة، حيث جاء في المادة السادسة: (... ولكل من الطرفين حق العدول عنها.) فإذا قدم الخاطب الصداق كله أو بعضه فللخاطب استرداد ما دفع حيث جاء في المادة التاسعة إذا قدم الخاطب الصداق أو جزءا منه، وحدث عدول عن الخطبة أو مات أحد الطرفين أثناءها، فللخاطب أو لورثته استرداد ما سلم بعينه إن كان قائما، وإلا فمثله أو قيمته يوم تسلمه. إذا لم ترغب المخطوبة في أداء المبلغ الذي حول إلى جهاز، تحمل المتسبب في العدول ما قد ينتج عن ذلك من خسارة بين قيمة الجهاز والمبلغ المؤدى فيه).
أما عن الهدايا المقدمة في فترة الخطوبة فلقد فصلت مدونة الأسرة في ذلك واعتبرت أنه إذا كان العدول من طرف الخاطب فلا حق له في طلب رد الهدايا التي كان قدمها، أما إذا كان العدول من طرفها فله الحق في استرداد الهدايا التي قدمها إما بعينها أو بقيمتها، حيث نصت المادة الثامنة على أن: ( لكل من الخاطب والمخطوبة أن يسترد ما قدمه من هدايا، ما لم يكن العدول عن الخطبة من قبله. ترد الهدايا بعينها، أو بقيمتها حسب الأحوال).
أما الأضرار التي يتسبب فيها أحد الخطيبين للآخر، كأن يحمل الخاطب المخطوبة على ترك عملها أو الانقطاع عن تعليمها أو إعداد جهازها، أو أن تطلب المخطوبة من الخاطب ترك مسكنه وإعداد مسكن آخر، فللطرف المتضرر الحق في المطالبة بالتعويض عن الضرر، كما تنص على ذلك المادة السابعة: ( مجرد العدول عن الخطبة لا يترتب عنه تعويض. غير أنه إذا صدر عن أحد الطرفين فعل سبب ضرارا للآخر، يمكن للمتضرر المطالبة بالتعويض).
وفي القانون المقارن فإن بعض القوانين تقضي بدفع التعويض إذا فسخ أحد الخطيبين الخطبة للطرف الآخر، لذا يذهب البعض إلى قول بتطبيق القانون المحلي باعتبار فسخ الخطبة فعلا ضارا. وذلك عملا بالقاعدة العامة في شأن القانون الواجب التطبيق على المسؤولية التقصيرية ، وهناك من يتجه إلى الدعوة إلى تطبيق قانون المدعى عليه المطالب بالتعويض.
الفقرة الثالثة: آثار الخطبة
أما آثار الخطبة المتمثلة في تحديد مدى الالتزام بإتمام الزواج، وكون الخطبة مانعا من الزواج بغير الخاطب أو المخطوبة، وجواز النظر والمخالطة بين الطرفين، فحسب الفصل الثالث من ظهير الوضعية المدنية للفرنسيين والأجانب فإنها تخضع للقانون الوطني للطرفين.فهذا القانون هو المحدد لهذه الآثار.
وهناك من يرى خضوع الآثار إلى القانون الوطني للخاطب، وذلك ضمانا لوحدة القانون الواجب التطبيق على الخطبة. أو للقانون المحلي إي محل انعقاد الخطبة أو لقانون القاضي.
وبما أن الخطبة في الفقه الإسلامي لا تعتبر سوى وعد بالزواج، فإنها لا ترتب إلا آثارا محدودة، حيث يظل كل واحد من الخطيبين أجنبيا عن الآخر ولا يحل للخاطب أن ينظر من المخطوبة إلا القدر المباح شرعا. ويرد المهر الذي دفع قبل العقد أو ترد قيمته، وكذلك الهدايا المتبادلة بين الطرفين والتعويض عن الضرر الذي يلحق أحد الطرفين جراء فسخ الخطوبة من قبل الطرف الآخر. أما أن الخطبة توجب الاستمرار فيها وتحولها إلى زواج فهذا كما رأينا يفقد الخطوبة وظيفتها والغاية من أصل تشريعها، لأنها ما شرعت إلا ضمانا لحرية الزواج لا للالتزام به ولا للإكراه عليه.
المطلب الرابع: استبعاد القانون الواجب التطبيق
إذا تم تحديد القانون الأجنبي الذي يطبق على النزاع، فإنه يتم أحيانا استبعاد تطبيقه وذلك في حالتين:
* الحالة الأولى: إذا وجدت قاعدة قانونية تنص على خلاف ذلك، بأن يطبق القانون الوطني على النازلة محل النزاع، كأن يكون أحد الطرفين مغربيا أو من بين الجنسيات التي يحملها الجنسية المغربية وقت الخطبة فإنه يتعين تطبيق القانون المغربي واستبعاد القانون الأجنبي عن التطبيق، عملا بالمادة الثانية من مدونة الأسرة التي جاء فيها تسري أحكام هذه المدونة على :
1- جميع المغاربة ولو كانوا حاملين لجنسية أخرى؛
2- اللاجئين بمن فيهم عديمو الجنسية، طبقا لاتفاقية جنيف المؤرخة ب 28 يوليوز لسنة 1951 المتعلقة بوضعية اللاجئين ؛
3- العلاقات التي يكون فيها أحد الطرفين مغربيا؛
4- العلاقات التي تكون بين مغربيين أحدهما مسلم.
أما اليهود المغاربة فتسري عليهم قواعد الأحوال الشخصية العبرية المغربية ).
ويلاحظ أن هذه المادة تنص على خضوع اللاجئين وعديمي الجنسية لمقتضياتها دون أن تبين نوع العلاقات التي تطبق عليها المدونة، هل هي العلاقات التي تكون فيما بينهم فقط، أم تشمل كذلك العلاقات التي يكون فيها طرف أجنبي؟ وبما أن اللاجئين وعديمي الجنسية يقعون تحت حماية الدولة، فمن تمام هذه الحماية، حمايتهم قانونيا كذلك بإخضاعهم للمدونة المغربية بنفس الكيفية التي يخضع لها المغاربة.
الحالة الثانية: يستبعد القانون الأجنبي عن التطبيق إذا تعارض مع النظام العام المغربي، من ذلك مثلا إذا كان القانون الأجنبي يلزم الخاطب بإتمام الزواج، أو يلزم الطرف الذي عدل بالتعويض بمجرد العدول، فهذا يتعارض مع مبدأ حرية الزواج وعدم الإكراه عليه. كما يتم استبعد القانون الأجنبي إذا كان يجبر العادل على أداء التعويض للطرف الآخر على أساس المسؤولية العقدية، لأن الخطبة ليست عقدا، ولكنها مجرد وعد بإبرام عقد الزواج، لأن مجرد الودع لا ينشأ إلزاما كما ينص على ذلك الفصل الرابع عشر من قانون الالتزامات والعقود.
من اعداد الطالب الباحث : بالحاج رضوان