ليس يخفى على مثقف مشرقي فضلا عن مغربي القيمة الثقافية للأكلة المغربية الشعبية المسماة: (الكسكس) أو (سكسو). وقد حاول جمع من الباحثين!! الوقوف على أصله وأصل تسميته؛ فطاشت الطلقات هنا وهناك، وكثرت الفرضيات.
وقد يكون ظهوره الأول في القرن الحادي عشر الميلادي في عصر مملكة بني زيري، ومن أغرب الأقوال ما يشاع أنه من اختراع الجن! كما في (the oxford companion to food، ص:220-221).
والكسكس على بساطة تركيبه من حبيبات دقيق أو شعير مجفف -تارة ترتمي فوقه باطمئنان ودعة أنواع سبعة من الخضروات؛ وربما أقل أو أكثر؛ و أحيانا تتربع على قمته دجاجة بحاشية محترمة من بصل وزبيب وحمص..! ..له ميزة قل من يلاحظها من الناس..!
فالكسكس عندنا من أهم التوابل التي تضيف إلى طعم العائلة على مائدة الطعام نكهة خاصة، وله فضل كبير بعد الله تعالى على فقراء المتزوجين ..فإنه به يستطيع طالب العفاف إمتاع أفواه كثيرة بمصاريف قليلة.
والكسكس هو الطعام الوحيد الذي تعلق قلبه بالمساجد، فستجده في كثير من المناسبات الشرعية وغير الشرعية في بلادنا يلج المساجد الكبرى معززا مكرما محمولا بعناية وأدب!!
ومن أغرب الميزات التي لفتت انتباهي.. وأطربت قلبي ما قرأته.. عنه.. أو عن قريب له.. في صحيح البخاري رحمة الله عليه، فإنه روى عن سهل بن سعد قال: كانت فينا امرأة تجعل على أربعاء في مزرعة لها سلقا؛ فكانت إذا كان يوم جمعة تنزع أصول السلق فتجعله في قدر ثم تجعل عليه قبضة من شعير تطحنها فتكون أصول السلق عرقه؛ وكنا ننصرف من صلاة الجمعة فنسلم عليها فتقرب ذلك الطعام إلينا فنلعقه وكنا نتمنى يوم الجمعة لطعامها ذلك.
ففي الحديث جواز الفرح بترقب يوم الجمعة للطعام مع كونه يوم عيد تعبدي، وفيه أيضا مشروعية اتخاذ طعام مميز ليوم الجمعة يؤكل بعد الصلاة يجتمع عليه الناس.
والجميل فيه أنه لا يضر المرضى إن كان من شعير وخضروات طازجة مختارة بعناية كالسلق، فقد روى الترمذي (2037) وغيره عن أم المنذر قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه علي؛ ولنا دوال معلقة؛ قالت: فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل وعلي معه يأكل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: "مه مه يا علي فإنك ناقه"، قال: فجلس علي والنبي صلى الله عليه وسلم يأكل، قالت: فجعلت لهم سلقا وشعيرا؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا علي من هذا فأصب فإنه؛ أوفق لك". قال الترمذي: هذا حديث جيد غريب وحسنه الشيخ الألباني في صحيح الترمذي.
وليس في رواية البخاري إشارة إلى أن ذلك كان يحصل في العهد النبوي.. فإنه لو ثبت لزاد المسألة إثارة!
وقد حصل..! فقد رواه ابن حبان (5307) قال: أخبرنا عمر بن محمد الهمداني قال حدثنا عبد الله بن حماد قال حدثنا بن أبي مريم قال حدثنا أبو غسان قال حدثني أبو حازم عن سهل بن سعد (إسناد البخاري) قال: كنا نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة ثم تكون القائلة؛ وكانت فينا امرأة ثم ذكر الحديث!
مثل هذا يكفي في فضله وقدره.
ولعله ينضاف إليه فضل آخر وهو كونه شبيه الثريد العربي! والله أعلم.
ولعلني بالغت في كسكسنا الحبيب! فحبك الشيء يعمي ويصم!
سوى أنني أحب هنا تذكير إخواننا وأخواتنا بآداب تليق بهذا الصاحب!
فأولها أن لا يؤكل حتى يذهب فوره وسخونته لحديث عائشة رضي الله عنه.
وأن يأكل كل مما يليه إلى أن يبلغ ما تحت فوهة الجبل الكسكسي... فلا بأس عليه بعدها إن سقط جهته ما ليس عند الآخرين ..إلا أن يتعمد متحايلا!
وأن لا يضع لقمة منه (مكورة) في فمه إلا بأصابعه الثلاثة.. وإلا استعمل الملعقة.
ولكل مدينة في المغرب عندنا تقريبا عادتها وأسلوبها في تحضيره وأكله، وكذلك هو الأمر في بلدان المغرب العربي، فالكسكس كما هو ظاهر أكلة بربرية بامتياز، ثم انتقل إلى مصر وبلدان جنوب الصحراء والأندلس؛ ثم إلى صقلية وغيرها، وفي البرازيل يصنع الكسكس من الذرة؛ ولعله انتقل مع الموريسكيين إلى هناك أيام محاكم التفتيش.
وللكسكس فضل آخر غريب.. فإنه قرين المغاربة أينما حلوا وارتحلوا وبه يعرفون عند الناس، وقد ذكر العياشي في رحلته المسماة ماء الموائد (2/410/الطبعة الإماراتية) أن بعضهم طلب من المقري صاحب نفح الطيب أن يصنع لهم الكسكس فقال له: (يا سيدي أحمد إنا نشتهي الطعام المسمى عند المغاربة بالكسكس، فهل في أصحابكم من يحسن صنعته) اهـ .
ولذلك قيل:
وخير ما في غربنا يلتمسُ *** حبّ مكركب يسمى الكسكسُ
و قهوتان في الصباح والمسا *** و من يزد عليهما فقد أسى
فها أنت ترى أن كبار العلماء يحسنون صنعته، والفضلاء في أقصى البلاد يشتهون رؤيته. ولا زال هذا إلى الآن. وليس قصدي هنا استقصاء أخبار الكسكس وإلا فالأمر يطول، إنما كان قصدي الحديث عن أكله يوم الجمعة ورد ذلك إلى السنة. والله الموفق.
مقال منقول من جريدة السبيل المغربية
[b]