(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].
معاشِرَ المسلمين، منَ الآفات الكبرى والأدواءِ العُظمى التي دبَّت إلى مجتمعاتِ المسلمين انتشارُ عادةِ قِيل وقال، دون استنادٍ إلى بُرهانٍ قاطعٍ، ولا اعتضادٍ على دليلٍ ساطِع، فذلكم بابُ فتنةٍ ولُباب محنةٍ على الإسلام والمسلمين؛ لأنَّ تناقُل أحاديث لا زِمام لها ولا خِطام تُوغِر الصدور وتُغيِّر العقول وتُفسِد الأُخُوَّة بين المسلمين، تجُرُّ من الويلات ما لا يُحصَى ومن الشرور ما لا يُستقصَى.
لا يليق بمجتمعِ الإسلام تَداوُل أقاويل تُشاع وأحاديثَ تذاع، سندُها الظنُّ والتخمين والرجمُ بالغيب، من غير تثبيتٍ ولا تبيين، فذلكم مما يحمِل المفاسِدَ العُظمى، ويتضمَّن الآثامَ الكبرى؛ لذا جاء النهي الصريح من سيد الثَّقَلَيْن عليه الصلاة والسلام عن تلك المبادئ القبيحة والمسالك المُعوجَّة، ففي (الصحيحين) أنه قال: ((إن الله كرِه لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعةَ المال)).
يقول ابن القيم رحمه الله: "من عُني بالنار والفِردوس شُغِل عن القيل والقال، ومن هرب من الناس سلِمَ من شرورهم".
إخوةَ الإسلام، حُرمة الأعراض عظيمةٌ في الإسلام.
لذا فمن أعظم الظلم التجنِّي على أحدٍ من المسلمين، أو التعرُّض له وفقَ عواطف عمياء وتبعيَّةٍ بلهاء، فقد صحَّ عن النبي أنه قال: ((الربا اثنان وسبعون بابًا، أدناها مثلُ إتيان الرجلِ أمَّه، وإن أربى الربا استطالةُ الرجل في عِرْض أخيه)).
وفي حديثٍ آخر: ((أربى الربا شتمُ الأعراض)).
فالواجب على من يخاف مقام ربِّه ويخشى المُثولَ بين يديه البُعد عن الخوض مع الخائضين بقيل وقال، وأن لاَّ يُشغلَ نفسه بما يخدِش دينه ويُعرِّضه لغضب ربه، ففي الحديث الصحيح الذي رواه أحمد وأبو داود أنَّ النبيَّ قال: ((من قال في مؤمنٍ ما ليس فيه أسكنَه الله رَدْغَة الخَبال حتى يخرج مما قال)). ورَدْغَة الخَبال: عصارة أهل النار.
وفي الصحيحين قوله : ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقُل خيرًا أو ليصمُت)).
وفيما رواه الطبراني بسندٍ حسنٍ: ((فلا تقل بلسانك إلا معروفًا، ولا تبسُط يدكَ إلا إلى خير)).
إخوةَ الإسلام، ومن الإثم المبينِ التّسارعُ في نشر أخبارٍ لا يَعضُدُها دليل، وإشاعةُ أحاديث لا يسنُدُها برهان، فربُّنا جل وعلا يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ)[الحجرات: 6].
ولهذا نصَّ أهلُ العلم على أنَّ من علامات الحمق تركَ التثبُّت وتربُّصَ الأخبار الواهية والظنون الباطلة وتصيُّد الأحاديث الكاذبة وسوء الظنون بالمسلمين وحملَهم على محاملِ السوء والشكوك.
معاشرَ المسلمين، سبيلُ أهل الإيمان والتّقوى ومنهجُ ذوي الصلاح وطاعة المولى التزامُ الأصولِ الإسلامية، كما حثَّهم عليه خالقُهم، لا يخوضون مع الخائضين، بل موقفهم التحلِّي بقول ربهم جلّ وعلا: (لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ)[النور: 12].
ومن هنا فهُم في حذرٍ من الولوجِ في نشر الإشاعات العارية عن الصّحّة، وفي بُعدٍ عن بَثِّ الأخبار الخاليةِ عن الحقيقة؛ لأنهم يَسمَعون قولَ ربهم جلّ وعلا: ( إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ)[النور: 19]. قال أهل العلم: "وهذا فيمن أحبَّ إِشاعتها وإذاعَتَها، فكيف بمن تولَّى كِبر ذلك؟!".
فعليكم -إخوةَ الإسلام- البُعد عن اللغو بأنواعه والفُحشِ بشتى صوره، ومن ذلك التسارعُ في شتم أعراض المسلمين والقدح في أديانهم وأمانتهم بغير حقٍّ ولا برهان، فربُّنا جلّ وعلا يقول في حقِّ المفلحين: (وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ)[المؤمنون: 3]، ويقول:( وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ)[القصص: 55].
إنَّ إصدار الأحكامِ على أحدٍ من المسلِمين بدون بيانِ أسبابٍ شرعيّة ولا حُجج قطعية ولا براهين صحيحة ولا أدلةٍ واضحة أمرٌ قبيحٌ في الإسلامِ، يُسبِّب الشرَّ الخطير، ويُحدِثُ البلاء الكبير.
ومن حادَ عن تلك الأصول العلمية والقواعد الشرعية العالية فقد وقع في اللَّجَج الباطل والحمق الممجوج، وصار همَّازًا لمَّازًا، مُتحاملاً على المسلمين، مُنحرفًا عن الجادّة، تاركًا للإنصاف.
واعلم -أيها المُنتقِد- أنَّ أعراض المسلمين حفرةٌ من حُفر النار، كما قال التقيُّ ابن دقيق العيد، فإياك أن تقف على شَفيرها.
واعلم أنّك إن جَرحتَ مسلمًا بغير تثبُّت ولا تحرُّز أقدَمتَ على الطعن في مسلمٍ بريءٍ من ذلك، ووسَمْتَه بميسَم سوءٍ سيَبقى عليه عارُه أبدًا، ويبقى عليك إثمُه أبدًا.
ولهذا ؛ فإنّ أشدَّ أنواع الغِيبة وأضرَّها على أهلها وأشرّها وأكثرها بلاءً وعقابًا أن يتساهل المرء بما تخُطُّه يمينه بما لا سنَدَ له ولا مُعتمَد، بل بجهلٍ مُفرِطٍ في الحقائق وغلوٍّ زائدٍ في إساءة الظنّ بالمسلم، فيقرؤه حينئذٍ الملأ، ويشهد عليك أهل الأرض والسماء بما كتبتَ.
فتذكَّر -يا من تقع في ذلك- ما ورد في (الصحيحين) عن المعصوم أنه قال: ((إنَّ الرجل ليتكلَّم بالكلمة ما يتبيَّن فيها يزِلُّ بها في النّار أبعدَ ما بين المشرقِ والمغرب)).
وليتذكَّر المسلم أنَّ الله سائلُه عن سمعِه وبَصَره وفؤاده، وعمّا قاله، اعلم أن الله رقيبٌ عليك، شهيدٌ على فِعلك وقولك.
واعلم أن الحقَّ في الدنيا وفي الآخرة في انتصارٍ وعلوٍّ وازدِياد، والباطل في انخفاضٍ وسَفالٍ ونَفاد، والبُهت والزّور وإن علا وارتَفَعَ في الآفاق وشاع بين المسلمين فهو آخِذٌ صاحِبَه إلى الهاوية، ومُردٍ به إلى سوء العاقبة في الدنيا والآخرة.
فعلينا - جميعًا- الالتزامُ بالمعيار الشرعي الذي جاء به نبيُّنا محمّد ، جاء به في كلّ شيء، وفي الأخبار، وعلينا جميعًا مراعاةُ العزيز الجبار.
قال الإمام أحمد: "ما رأيتُ أحدًا تكلَّم في الناس وعابَهم إلا سقَط".
وليتذكَّر من أطلَقَ قَلمَه أو لسانَه في التجريح والقَدح بكلامٍ لا يستند على مأخذ، بل على جهلٍ بالحال وعدمِ تصوُّرٍ للواقع، أنه بهذا قد بغى وظلَم، فليخشَ على نفسه من دعوةٍ تَسرِي بليلٍ وهو عنها غافِل، فقد قال : ((واتَّق دعوةَ المظلوم؛ فإنه ليس بينها وَبينَ الله حجاب)).
وصدق القائل:
قضى الله أنَّ البغْي يصرعُ أهلَه ******* وإنّ على الباغي تدور الدوائر