يجب على كل مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يُحَكِّم كتاب الله وسنة رسوله على تصرفات العباد، فلا يرضى منها إلا بما رضيه الله تعالى إن كان قد ارتضاه ربا، ولا يقبل منها إلا ما يوافق الإسلام إن كان قد ارتضاه دينا، ولا يفرح منها إلا بما يوافق سنة محمد صلى الله عليه وسلم إن كان قد ارتضاه نبيا ورسولا، كما قال تعالى: "فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً"(النساء59)، وقال سبحانه: "فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً"(النساء65).
فهَلُمَّ بنا -أيها القارئ الكريم - لِنَنْظُر إلى الأحداث التونسية بمنظار الشرع، ولِنَـزِنَهَا بميزان الوحي، بعيدا عن الأهواء والعواطف، وَلنَقِف معها وقفات:
*الوقفة الأولى: الذلة والصغار مآل الظالمين والمتكبرين
حين نلقي نظرة في كتاب الله نجده تبارك وتعالى قد أمر بالعدل، ونهى عن الظلم والبغي، فقال:"إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ"(النحل90)، ويقول عز وجل: "إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً"(النساء58)، وفي الحديث القدسي قال تعالى: "يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلاَ تَظَالَمُوا"(رواه مسلم).
بِنَاءً على هذا لا يمكن لمسلم أن يرضى بما كان يُمَارَسُ في تونس من ظلم للعباد، وقهر للمستضعفين. وما آل إليه أمر حاكمها من الذل والصغار هو مصير جميع الظالمين المتكبرين، فمن تكبر على الله، وتمرد على شرعه، واحتقر عباده؛ فإن الله تعالى يعامله بنقيض قصده بأن يذله في الدنيا والآخرة، فهذا رأس المتكبرين وإمامهم إبليس اللعين، حين أمره الله بالسجود لآدم "أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ"(البقرة34)، فكان عاقبة تكبره أن اُبهط من الجنة وطرد منها ذليلا: رَامَ عُلُوًّا واستكبارا فَأُنْزلَ إلى الأرض.
وهذا فرعون تكبر واستعلى، حتى قال لقومه:"أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى"(النازعات24)، فأغرقه الله في اليَمِّ: رَامَ –هو الآخر- عُلُوًّا واستكبارا فَأُنْزِل تحت الماء.
وهذا قارون "كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ" (القصص76)، فخسف الله به وبداره الأرض: رام علوا واستكبارا –كسابقيه- فأُنزل إلى تخوم الأرض .
هذا في الدنيا، وفي الآخرة يقول تعالى:"تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ"(القصص83)، وقال صلى الله عليه وسلم:"يُحْشَرُ المُتَكَبِّرُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ أَمْثَالَ الذَّرِّ (صغار النمل) فِي صُوَرِ الرِّجَالِ يَغْشَاهُم الذُّل مِنْ كُلِّ مَكَانٍ" (صحيح الجامع8040)، والجنة ليس فيها مكان للمتكبرين، كما قال صلى الله عليه وسلم : « لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ»(مسلم)، ولذلك لما تكبر إبليس لم تعد تصلح له فقال الله له: "فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ" (الأعراف13). والكبر كما عرفه النبي صلى الله عليه وسلم "بَطَرُ الْحَقِّ، وَغَمْطُ النَّاسِ »(مسلم)، أي: دَفْعُ الحق، واحتقار الخلق، وكلا الأمرين قد وُجد في حاكم تونس، "فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ" (الحشر2).
وفي المقابل "من تواضع لله رفعه الله" (صحيح الجامع6162)، فَبِقَدْرِ ما يتذلل العبد لربه، ويخضع لأمره، وينقاد لشرعه وحكمه، ويجتهد في تحقيق العبودية له، ويتواضع لعباده؛ بِقَدْرِ ذَلِكَ وَبِحَسَبِه يرفع الله منزلته في الدنيا والآخرة.
• الوقفة الثانية: لله الأمر من قبل ومن بعد:
حين ننظر في كتاب الله تعالى نجد الله تعالى يقول: "قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" (آل عمران26)، فالله تعالى بيده الأمر كله، أوله وآخره، دقيقه وجليله، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فليس بصحيح ما يردده بعض الكتاب من قول الشاعر:
إذا الشعب يوما أراد الحياة * * * فلا بد أن يستجيب القدر
فالقدر هو ما يقدره الله تعالى، ويشاؤه، ولا يمكن لمشيئة العباد أن تكون حاكمة على مشيئة الله، بل العكس هو الصحيح، كما قال تعالى: "وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ" (التكوير29)، وقال سبحانه: "إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ"، فالحكم لله تعالى تقديرا وتشريعا، والبيت السابق يريد أن يجعل الحكم القدري للشعب بعد أن جعلوا له الحكم التشريعي (الديمقراطية)، والله يقول: "غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ *فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ" (الروم2-3-4).
• الوقفة الثالثة: قتل النفس من الكبائر والموبقات:
حين ننظر في كتاب الله نجد الله تعالى يقول: "وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً * وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيراً" (النساء29-30)، وحين ننظر في سنة النبي صلى الله عليه وسلم نجده عليه الصلاة السلام يقول: «مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَيءٍ فِي الدُّنْيَا عُذِّبَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ » (متفق عليه)، وقال صلى الله عليه وسلم: « مَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ ، فَهوَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ ، يَتَرَدَّى فِيهِ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا ، وَمَنْ تَحَسَّى سَمًّا فَقَتَلَ نَفْسَهُ ، فَسَمُّهُ فِي يَدِهِ ، يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا ، وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ، فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ ، يَجَأُ بِهَا فِي بَطْنِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا »(متفق عليه).
فَقَتْلُ النفس كبيرة من الكبائر، وقد ارتكبت وسائل الإعلام خطيئة عظيمة حين جعلت من الذي حرق نفسه بطلا شهيدا، مما جعل غيره يتأسى به في فعله، فتسببت له في تحمل أوزار أخرى إلى وزره العظيم كما قال صلى الله عليه وسلم: "َمَنْ سَنَّ فِي الإِسْلاَمِ سُنَّةً سَيِّئَةً، كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا، وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيءٌ" (رواه مسلم)، نسأل الله أن يتجاوز عن موتى المسلمين.
ولقد أساء بعض من يُنسب إلى العلم والدعوة حين تلطف في إنكار هذا المنكر العظيم، ولم يشنعه تشنيعا يزجر الناس عن مثله .
• الوقفة الرابعة: لا يجوز استغلال الأحداث التونسية في زرع الفتن والقلاقل
لما وقع في تونس ما وقع، أراد بعض الناس أن ينقل ما حدث هناك إلى بلدنا المغرب وإلى غيره من بلاد الإسلام، فجعلت بعضُ وسائل الإعلام غير المسؤولة تؤلب الشعوب ضد حكامها المسلمين، وزاد الطين بِلَّة حين ظهر بعض من يحسب على العلم والدعوة (القرضاوي)؛ ليقول عن الشعب التونسي الشقيق: "هذا الشعب الذي ضرب المثل للشعوب العربية، والشعوب المقهورة، والجماهير المسحوقة في عالمنا كله" .
لكن حين ننظر في كتاب الله تعالى –بعيدا عن العواطف- نجد الله تعالى يقول: " "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ"، وحين ننظر في سنة النبي صلى الله عليه وسلم نجده يقول لنا: «مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا يَكْرَهُهُ فَلْيَصْبِرْ عَلَيْهِ ، فَإِنَّهُ مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ شِبْرًا فَمَاتَ ، إِلاَّ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً»(متفق عليه)، وقال صلى الله عليه وسلم لحذيفة بن اليمان حين سأله عن الأئمة الذين لا يهتدون بهديه: «تَسْمَعُ وَتُطِيعُ لِلأَمِيرِ، وَإِنْ ضُرِبَ ظَهْرُكَ، وَأُخِذَ مَالُكَ، فَاسْمَعْ وَأَطِعْ»(مسلم)، وقال صلى الله عليه وسلم في الأمراء: «إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ بَعْدِى أَثَرَةً (أي: استئثار الأمراء بالدنيا) وَأُمُورًا تُنْكِرُونَهَا. قَالُوا: فَمَا تَأْمُرُنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «أَدُّوا إِلَيْهِمْ حَقَّهُمْ، وَسَلُوا اللَّهَ حَقَّكُمْ»(البخاري). والحكمة من هذا الأمر النبوي الرشيد هو كما قال العلماء: حقن الدماء وتسكين الدهماء (العوام)، وذلك لما ينتج عن الخروج على الحكام من سفك للدماء، وانتهاك للأعراض، واغتصاب للأموال.
هذا أمرُ الله ورسوله، وإنه لكبير إلا على من رضي بالله ربا، وبالإسلام دينا، بمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا، وأما من قَدَّم هواه على حكم الله ورسوله فسيقول: هذا جُبن، وضعف، واستكانة، وخيانة...، وسيصف من دعا إليه بالتزلف للسلطة، والعمالة للحكام، فليقل من شاء ما شاء، ولن يمنعنا ما لقيناه من السلطات في هذا البلد الأمين من إغلاق لدور القرآن، ومنع من الخطب والمواعظ في المساجد، من أن نقول الحق نصحا لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، لا نريد بذلك إلا أن يرضى عنا ربنا، ونخشى إن كتمنا العلم أن نكون ممن قال الله فيهم: "إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَـئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ" (البقرة159).
كانت هذه وقفات وجيزة مع الأحداث التونسية، أردت من خلالها الدعوة إلى تحكيم كتاب الله وسنة رسوله فيما يجري من أحداث، وعدم الانجرار وراء العواطف غير المنضبطة بالشرع.
نسأل الله تعالى أن يوفق المسلمين وولاة أمرهم لما يحب ويرضى، وأن يجنب بلدنا هذا، وجميع بلاد المسلمين القلاقل والفتن، إنه ولي ذلك والقادر عليه، والحمد لله رب العالمين.