إِنَّ الحَمْدَ للهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
أمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ أَصْدَقَ الحَدِيثِ كَلَامُ اللهِ، وَخَيْرَ الهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُها، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أمَّا بَعْدُ: فالله -تَباركَ وتَعالى- يقول في كتابِه العزيز: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا﴾، ويقول اللهُ -عزَّ وجلَّ- في وصف الفئة المؤمنةِ التي استثناها مِن الخسران المُبينِ بِقولِه -سبحانَه-: ﴿وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾، ويقول النَّبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-: «مثلُ المؤمنين في توادِّهم وتَراحُمِهم كمثلِ الجسدِ الواحِد إذا اشتَكى مِنهُ عضوٌ تَداعَى له سائرُ الجسَدُ بالحُمَّى والسَّهَرِ»، ويقول النبيُّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-: «المؤمنُ للمُؤمنِ كالبُنيانِ يشُدُّ بعضُه بعضًا». هذه مقدِّمةٌ بين يديْ كلمةٍ رأيتُ من الواجبِ أن أذكرَها، ومن الواجبِ أن أبيِّنَها، وأن أتكلَّم حولَها بما فيه ضوابط الشَّرع -بقدْر الاستِطاعة، وبقدرِ ما آتانا اللهُ-سُبحانه-مِن علمٍ بكتابِه، ومعرفةٍ بسُنَّة رسولِه الكريم-صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-. ذلكم أن كثيرًا من النَّاس ينطلِقون في أحكامِهم على الوقائعِ والأحداثِ مِن مُنطلقاتٍ عاطفيَّةٍ، أو يَصدُرون من أُصولٍ حماسيَّة، أو يَخرُجون بأفكارٍ هوائيَّةٍ مَنبعُها الرَّأي، وأساسُها التَّفكير القاصِر.
ولمَّا أمر الله -عزَّ وجلَّ- أهلَ العلم أن يُبيِّنوا: ﴿لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ﴾؛ كان ذلك إيذانًا بِلزومِ البيان -بقَدر المعرفة العِلميَّة، وبقدرِ الأصولِ والقواعد الشَّرعيَّة-. ولا يخفَى على أحدٍ ما يَجري -الآنَ-استمرارًا لما جرَى مِن قبلُ- في (تُونُس).
والذي دفعني إلى هذا الكلام: كثرةُ السُّؤال، وكثرةُ الاستِفسارِ، ولا بُدَّ من البيانِ الشَّرعيِّ -أكرِّر- بعيدًا عن العواطف؛ لأنَّني رأيتُ أنَّ كثيرًا -من أهلِ الصَّحافة، ومن أهل السِّياسةِ، وبعضًا ممَّن هم مُصدَّرون على أنَّهم أهلٌ للفتوى- قد أصدروا بياناتٍ وكلماتٍ لم تَضبط القضيَّة على وجهِها الحق، ولم تَكشِف أصولَها الواقعيَّة -من جهةٍ-، والشَّرعيَّة -من جهةٍ أخرى-.
وأضبطُ ذلك بنقاطٍ؛ فأقول: - النُّقطةُ الأولى: مَبنيَّة على قول الله -عزَّ وجلَّ-: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾؛ فجعل الله -عزَّ وجلَّ- الإيمانَ مُرتبِطًا بالأمانِ، والأمانَ موصولًا بِالإيمانِ؛ بحيث يكونُ هذا بابَ هذا، وأن يكونَ ذاك طَريقًا لهذا، ولَئنْ فَقَدَ المؤمنُ -حينًا من الدَّهر- الواقعَ الإيمانيَّ الذي يُطبِّق فيه شريعةَ الله؛ فإنَّه لن يَفقِد طُمأنينَةَ النَّفس، وسلامةَ القَلب؛ كما قال -سُبحانَه-: ﴿أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمِئِنُّ القُلُوبُ﴾.
وهذا شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميَّةَ -رحمهُ اللهُ-وهو شيخُ عُلماءِ عصرِه- ابتُلي بالحاسِدين، والحاقِدين -من العلماءِ الذين لم يَبْنُوا علمَهم على الكِتاب والسُّنَّة-مِن علماء العامَّة-، وقد كان يقولُ عن نفسِه -رحمهُ الله-: «أنا رجلُ مِلَّة، ولستُ رجلَ دولةٍ»؛ فهو يَبني مواقِفَه على الشَّرع -رضيَ من رضي، وسخِط مَن سخط- بمقدارِ الضَّوابط الشَّرعيَّة في أصول النَّصيحة، في أصول الأمرِ بالمعروف والنَّهي عن المُنكر، في أصولِ الإسلامِ -صغيرِها وكبيرِها-رحمهُ اللهُ-.
ابتُلي بهؤلاء الذين كادُوا به، وجَرُّوه إلى السُّلطان، وآذَوه وسجَنوهُ؛ فكان لا يَلتَفتُ إلى هذا -كلِّه-، ولا يأبَه لهذا -جميعِه-؛ ويقول: «أنا جنَّتي في صَدري؛ أينما رُحتُ؛ فهي معي: إذا قتلتُموني؛ فقتلي شهادة، وإذا نفَيتُموني؛ فنفيي سِياحة، وإذا سجَنتُموني؛ فسِجني بالله خَلوة»! هكذا حالُ المُؤمن في الوقت الذي قد يفقد فيه ظروف أَمْنِه -في بلدٍ ما، أو واقعٍ ما-، وهو مأمورٌ بالصَّبر؛ ﴿وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا﴾؛ هذا ما أمرَ اللهُ به، وهذا ما بيَّنتْه السِّيرةُ النبويَّة العَطِرة.
والنَّبيُّ -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلام- يقول: «ما أوذيَ في الله أحدٌ مثل ما أوذيتُ» -صلواتُ الله وسلامُه عليه-. لذلك: في كتاب الله -أيضًا-:﴿لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ - إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ - فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ - الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ﴾.
مِنَّة من مِنَن الله التي تترتَّب على العبادة الحقَّة: مِنَّة الإيمان مقرونةً بمِنَّة الأمان: ﴿أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ﴾.
وهكذا الإنسان: كما أن الإنسانَ لا يَعيشُ بغيرِ طعام؛ فإنَّه لا يعيش الحياةَ الحقيقيَّة الآمنةَ والإيمانيَّة بغير إيمانٍ.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾.
فالحياةُ الحقيقيَّة ليست حياةَ الغُدُو والرَّواح، ولا الأكل والشُّرب، ولا الزَّواج والنِّكاح -حسبُ-؛ وإنَّما الحياةُ الحقيقيَّة: حياة القُلوب، حياة الإيمان؛ لأن الله عندما خلقَ الخلْقَ لم يخلُقهُم إلا لعبادتِه ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾.
- النقطة الثَّانية: كيف إذا حورِب مُجتمَعٌ بلُقمة عيشِه، وعِبادةِ ربِّه؟ فلا شكَّ أن الأمرَ سيكونُ أشدَّ وأنكى! وأصعبَ وأعظم!! وأعسَرَ وأظلَمَ!! والعياذُ بالله -تَبارك وتَعالى-.
هكذا كان ذلك الحالُ في بلد (تُونُس)، بلد عُلماء الإسلام، وبلد الجامعةِ الزَّيتونيَّة التي خرَّجت الآلافَ مِن أهل العِلم -على مدارِ قرونٍ وقرون-؛ فضويِقَ أهلُ الإسلام في أقلِّ حقوقِهم، وفي أدنى واجِباتِهم؛ حتى المرأة في حِجابِها -لا نقول: في نقابِها-.. في حِجابِها! فضلًا عن السَّمت الإسلاميِّ المُغيَّب.. حتى الأذان!!
وإنَّني أتذكَّر: قبل الأحداث بأيام قليلة جدًّا؛ قام أحدُ الوزراء يُطالِب بإلغاءِ الأذان؛ لما يُسبِّبُه من إزعاج!!! وهذه نُقطة لعل -قليلًا- مَن يتذكَّرها. ﴿وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ﴾.
يؤْتِي الملكَ مَنْ يشَاءُ وَينزِعُ المُلكَ ممن يشَاءُ -سُبحانَه في عُلاه، وجلَّ في عالي سَماه-.
وهذا مِن انتِقام المَولى -سُبحانَه وتَعالى- لدِينِه! نحن لا نقول لأنَّ الشَّعب الذي ثارَ في (تُونس) ثار لإسلامِه! فلنكُن واقعيِّين، ولنكنْ صُرحاء مع أنفسِنا؛ فأهلُ الإسلام مغيَّبون، والدُّعاة إلى الإسلام -ولو بالعُموم- أكثر تغييبًا! والأكثر تغييبًا -بصورةٍ أشدَّ-، ومحارَبةً -بصورةٍ أعظمَ- هُم أهل السُّنَّة، الدَّاعون إليها، والملتزِمون بها، والقائِمون عليها؛ فهذه -عند أولئكَ- مِن أعظم التُّهَم، ومِن أشدِّ الفِتن والمِحَن!! لقد ثارُوا مِن أجلِ الطَّعام، ومِن أجلِ الرَّواتب، ومِن أجل المال، وحصل ما حصلَ بخيوطٍ لا يزالُ كثيرٌ منها مخفيًّا! ولا يزالُ كثيرٌ منها غير ظاهرٍ! ولكنَّنا نتكلَّم عن الإطار العامِّ، نتكلَّم عن بعضِ الفتاوى التي تُريدُ أن تجعلَ مِن قضيَّة (تُونُس) مَثلًا يُحتذَى، ثم يُصدَّر في سائر بلادِ الإسلام!! هؤلاء غابت عنهم هذه المعاني الشَّرعيَّة.
نحن نرفضُ الظُّلم، ونرفضُ الظَّالِمين، ونرفُض -بصورةٍ أشد- الماكِرين بالإسلام والمُسلمين، والله يقول: ﴿وَيَمْكُرونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ﴾.
لكن -في الوقتِ نفسِه-: لا يجوز لنا أخماسًا بأسداس لنوقعَ النَّاس في فتنٍ ليس لها في الإسلام نصيبٌ.
هذه الثَّورات -ثوارتٌ الخُبز، وثَوراتُ المال- ثوراتٌ ليست شرعيَّة -في أصلِها-، ولكنَّ الله مُنتقِم جبَّار.. ولكنَّ الله حَكيم عَدْل قِسطٌ -سُبحانَه وتَعالى-.
فها هي ذي النَّتيجة: الفرار والانهيار! كما يقولون: في ليلةٍ لا قمرَ فيها!! مَن حارب اللهَ ورسولَه؛ فإنَّ الأمرَ سيكونُ مِن جهتَين وطرَفَين.
الله -عزَّ وجلَّ- عندما ذكرَ الرِّبا؛ ماذا قال في أهلِه وفي القائِمين به؟ ﴿فأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ﴾.. فكيف الشَّأنُ بمن حاربَ الحجابَ.. بمَن حاربَ الصَّلاةَ.. بمَن حارب المسلمَ لكونِه مسلمًا.. وحاربَ المُلتحيَ لكونِه مُلتحيًا.. في قصص تُذكَر أشبه ما تكونُ بالخيال! وبعالَم المِثال! نسأل الله -تعالى- العافيةَ.
أمَّا أن ننظرَ إلى هذا الذي جرَى في خيوطٍ -كما قلتُ- لا تزالُ خفيَّة، وفي ظروفٍ لا أظنُّها مجرَّد مَحلِيَّة؛ ليُصدَّر مثلُ هذا الموقف إلى بلادٍ أخرى مِن بلادِ المسلمين؛ فهذه دعوةٌ سيِّئةٌ جدًّا لإيقاع المسلمين في بحرٍ من الدِّماء!! والفتنةُ عمياء!! الذين يَحكُمون على الأمور لمجرَّد العواطف؛ قد لا يُعجبُهم هذا الكلام؛ لكنْ: سوف يُعجبُهم -ويعجبُهم جدًّا- إذا فَقدُوا الأمنَ.
وكما قال ذلك الإمامُ من أئمة السلفِ -قديمًا-قبل أكثر مِن عشرة قُرون-: «سُلطانٌ غَشومٌ خيرٌ من فتنةٍ تَدوم».
لكنَّ السُّلطان الغشوم ليس سُلطانًا يحاربُ اللهَ ورسولَه، ليس سُلطانًا يُحارب الأحكام الشَّرعيَّة.. قد يكون سُلطانًا فيه ظُلم.. قد يكون سلطانًا فيه قَهر.. قد يكون سُلطانًا فيه فِسق.. لكنه لا يزال عنده التَّعظيم للشَّريعة.. لا يزال عنده التَّعظيم لحُرمات الله.. وإن قصَّر في نفسِه، أو قصَّر في مجتمعِه؛ لكن هذا التَّقصير في النَّاحية الإيمانيَّة يُصاحبُه شيءٌ من الأمْن -ولو كان أمنًا نفسيًّا-.
أمَّا أن يُفقَد الإيمان، وأن يُفقد الأمنُ النَّفسيُّ، وأن تُفقدَ لُقمةُ العَيش؛ فلا شكَّ ولا رَيب أنَّ الأمرَ سيكونُ شأنًا للهِ وباللهِ؛ فحصل ما حصل! ومن العجب: أن بعضَ المُتصدِّرين للفُتيا جَعل مِن قُدوتِه، ومِن أُسوَتِه ذلك الشَّابَّ! الذي حرقَ نفسَه! والذي جُعل كأنَّما هو الشَّرارة التي انطلقتْ فيها ما يُطلَق عليه -اليوم- في عالَم الصَّحافة والسِّياسة: أنَّه (ثورة)! وأنا أقول وأكرِّر: لا تزالُ الخُيوط مَخفيَّة، والقضيَّة أكبر -بكثيرٍ- مِن مجرَّد ما نسمع ونقرأ؛ فلا نتعجَّل، ولا نستعدي أو نتعدَّى ونتجاوز الغيبَ. علينا أن ننظرَ إلى أنفُسِنا.. ما قد يكونُ واقعًا هنالك؛ قد لا يمكن تكرُّرُه هنا -أو هناك-؛ فلا يجوزُ استِنساخُ هذه الصُّورة، أو تصديرُها؛ لِما يحويهِ هذا الاستِنساخ، ولما يَحويه هذا التَّصدير من آثارٍ عظيمةٍ وعظيمة جدًّا.
وأنا أضرب المثل على ذلك ببلدٍ قد يكونُ الكثيرون منَّا نسِي هذا الواقع: (الصُّومال).
الصُّومال: قبل سنوات وسنوات كان يحكُمه مَن؟ قبل انفِلاتِه، وقبل تقاسُمِه، وقبل تصارُع أهلِه؟ كان يحكُمُه حاكم اسمُه: (سِيَاد بري)، هذا كان شُيوعيًّا، لا يُؤمِن بالله، ولا يؤمن برسول الله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-! لكنْ: كان ضابطًا للنَّاس، ولأنحاءِ الصُّومال الكبرى، ولولاياتِها، ومحافظاتِها، ومُدُنها بصورةٍ تجعلهم -على الأقلِّ- يجدون لُقمة الطَّعام، ويستطيع الواحدُ منهم أن يقومَ بصلاتِه وعبادتِه -ولو بينَه وبين ربِّه-. لما ذهب هذا الإنسانُ -وهو على غير الإسلام، وعلى غيرِ أصل الإيمان-؛ ماذا حدَث في البِلاد؟ إلى هذه اللَّحظة، وإلى ما لا يعلمُ نهايتَه إلا ربُّ العالَمين -سُبحانَه وتَعالى-.. فصار النَّاسُ يقولون: يا ليت! بقي فلانٌ وفلان!! يا ليت بقيت الدَّولة مُجتمِعة على هذا الحاكِم -ولو فيه ما فيه-!! الآن: (الصُّومال) أكثر مِن صومال، والقيادة أكثر مِن قيادة، والحُكم أكثر مِن حُكم، على هشاشةٍ وضعفٍ وجُوعٍ وفَقرٍ -لا يعلمُ مداهُ إلا ربُّ العالَمين-. العاقل مَن لا يَنظر إلى الأمور في مُفتَتَحاتِها ومبادئ أمرِها.. العاقل: هو الذي ينظُر إلى الأمور في نِهاياتِها، ومآلاتِها؛ لا أن يَنساق وراء عاطفتِه، أو حماستِه وحميَّته، أو غَيرتِه دون التفكُّر والتدبُّر؛ أن يكون هنالك مُندسُّون، أو أن يكونَ هنالك أناسٌ يُريدون الإساءةَ -ولو أعلنُوا في الظَّاهر الإحسان-.
ورضيَ اللهُ عن ابنِ مسعودٍ القائل: «كم مِن مُريدٍ للخير لن يُصيبَه»! هذا إذا كان مريدًا للخير؛ فكيف وهو قد لا يكون مُريدًا للخير -أصلًا-؛ بل إنَّه يُريد الشَّرَّ؛ لكنَّه يتظاهَرُ ويتزيَّا بزِيِّ الخير!!
وللأسف: قرأنا وسمِعنا مَن يكادُ يُسوِّغ أن يَحرِق المسلمُ نفسَه طمعًا في أن يحدث فِعلُه -هنا أو هناك أو هنالك- ما حدث في تونُس! وبعضُهم أضفَى على العمل صورةً فضفاضةً! لم يصرِّح بالجواز؛ لكنَّه: لم يُشدِّد في النَّكير! ونحن لا نُكفِّر المُنتحِر الذي قتلَ نفسَه، أو أحرق نفسَه؛ ولكنَّنا نقول: هذا مِن أكبر الكبائر.
اسمعوا ماذا يقولُ النَّبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-: «مَن تحسَّى سُمًّا فقتَلَهُ؛ فهو يتحسَّاه في نارِ جهنَّم خالدًا فيها إلى يومِ القيامة» -أو كما قال-عليهِ الصَّلاةُ والسَّلام- «ومَن ضَرَبَ نفسَه بحدِيدةٍ فهو يتجرجَرُ فيها في نارِ جهنَّم إلى يومِ القِيامة» -أو كما قال-عليهِ الصَّلاةُ والسَّلام-.. لكن هذا مِن نُصوص الوعيد، وعقيدة أهلِ السُّنة: لا نُنزل أحدًا مِن أهل القِبلة جَنَّة ولا نارًا؛ ولكن: نرجو لمُحسِنهم، ونستغفرُ لمُسيئِهم.
وللأسف الشَّديد! رأينا ما تناقلتْه الإذاعاتُ والفضائيَّات والصُّحف والمجلات: أن هنالك في مصر مَن فعل مثل هذا الفعل! وأن هنالك في الجزائر مَن فعل هذا الفِعل!! وأن هنالك في السعوديَّة مَن فَعَل هذا الفِعل!! وأن هنالك في موريتانيا مَن فعَل هذا الفِعل!! وبلغني أن رجلًا في عمَّان فعَل هذا الفعل!! ماذا يريد هؤلاء؟!! هؤلاء -فيما هُم فيه- لم يستفيدوا دُنيا، ولن يستفيدُوا دِينًا! بل سيكون الضَّررُ أشدَّ وأعظم! بينما إذا استقام كلٌّ مِنَّا على أمرِ الله -كما أمَر الله- بأمرِ الله: ﴿فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ﴾؛ مَن المُخاطِب؟ الله.. مَن المخاطَب؟ رسول الله.. ﴿فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلَا تَطْغَوْا﴾.
هذه الصُّوَر المُخالفة للشَّريعة -مِن هنا وهناك وهنالك- هي مِن صُوَر الطُّغيان التي قد يفهمُها بعضُ النَّاس، أو يُصوِّرُها، أو يُصدِّرها آخرون على أنَّها ثورةٌ ضدَّ الظُّلم، وثورةٌ ضدَّ الجوع، وثورةٌ ضدَّ الفساد؛ ولكنَّها -في الحقيقة- ستكونُ لها مِن الثمار الفجَّة ما لا يعلم به إلا الله.
وإني لأحمدُ الله أن ما جرَى في تونُس لم يكن بِاسم الإسلام، ولم يكن بِاسم الدِّين، ولم يكنْ بِاسم الشَّريعة؛ وإنَّما كان للجُوع، والمالِ، والفَساد، والبلاد! بينما لو نظرنا إلى ثلاثين سَنةً مضتْ -قبل ذلك- فيما يُسمَّى بـ(الثَّورة الشِّيعيَّة)؛ قامت بِاسم الإسلام، وسمَّوها -يومئذٍ- (الثَّورة الإسلاميَّة)..
الحمد لله أنَّهم يُسمُّونها -هذه الثَّورة التُّونسيَّة- (ثورة الياسمين)، ولم يُسمُّوها ثورة الإسلام ولا المُسلمين.. تلك الثَّورة التي كان من أوَّل مبادئِها -في اللَّحظةِ الأولى-: تصدير الثَّورة! والحمد لله أنَّها فشلت! وإن كنا نرى بعضَ الآثار، في بلدٍ في الجوار، والكلُّ يعرف ماذا يجري في لبنان -الآن- مِن الكيدِ الشِّيعيِّ بالسُّنَّة وأهلِ السُّنة، مما نَخشى أن يكون صورةً أُخرى -ولو مصغَّرة- مما يَجري في العِراق -وجرى مِن قبلُ في إيران-.. هذه مصيبة!! ونخشى أن ينتقلَ ذلك إلى المنطقةِ الشَّرقيَّة في بلاد الحرَمَين الشَّريفَين؛ ليكونَ مُخطَّطًا صَفَوِيًّا فارسيًّا شيعيًّا خبيثًا، لا يُرادُ به إلا ضَرب السُّنَّة، وقمعُ أهلِها؛ لأنهم الأعداء التَّاريخيُّون عند أولئك الظالمين أنفسهم، والظالِمين غيرَهم، والظالِمين تاريخَ الأمَّة، الموقِفِينَهُ إلى حدٍّ يَعيشون على ذِكرياتِه، ويعيشون على آلامِه المزعومة بالكَيد والزُّور، والويل والثُّبور.
تلك الثَّورة -قبل ثلاثين سَنةً- صدرتْ بِاسم المسلمين؛ فأفسدتْ إفسادًا عظيمًا! ولقد سمعتُ بأذُنِي -في ذلكَ الوقتِ- في مَجمعٍ حافلٍ -هُنا في عمَّان- قادَهُ رأسٌ مِن رؤوس مَن يُسمَّون بـ(الدُّعاة الإسلاميِّين)! يقول: «مَثلُ الثَّورة الإسلاميَّة كشجرةٍ أصلُها ثابتٌ وفرعُها في إيران»!! والذي رفع السَّماء بغيرِ عمدٍ؛ سمعتُ هذا بأذُنيَّ!! وقال آخر -في السِّياقِ نفسِه، وفي الإطار ذاتِه-: «مسلمٌ شيعيٌّ؛ خيرٌ مِن مُسلم سُنيٍّ لا يُقيم حدودَ الله»! هذا هو الجهل بالدِّين!! كأنه يقول: لا يهمنا العقيدة والاعتقاد -وهو الأصل-؛ وإنَّما يهمُّنا الحدود!! الحدود تهمُّنا، وإقامة الشَّريعة حُلُمنا؛ ولكن: في إطار العقيدة الصَّحيحة، ليس في إطار الغُلوِّ، ليس في إطار تَأليهِ الأئمَّة، وتعظيمِهم، وفي إطار تكفيرِ الصَّحابة وسبِّهم، وفي إطار ادِّعاء تحريفِ القرآن والتَّكذيب بآياتِه.. هذا يجبُ أن يُفهَم، ويجب أن يُعلَم.
يقول شيخُ الإسلام ابنُ تيمية -رحمهُ الله- في كتابِه «الاستقامة»: «إنَّ كثرةَ الذُّنوبِ مع صِحَّة التَّوحيدِ خيرٌ من قِلَّة الذُّنوبِ مع فساد التَّوحيد»؛ لأن الأصل ماذا؟ الأصل التَّوحيد، والأصلُ العقيدة، وإن كان هذا الأصلُ مَبنيًّا على أصلٍ آخر: أن مَن استقامَ توحيدُه؛ استقامتْ عِبادتُه، وخلصت لله طاعتُه. لكن: قد يتخلَّف هذا الأمر، وكلُّ بني آدم خطَّاء، وخير الخطَّائين التَّوَّابُون -كما قال رسول الله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-.
يقول أحد الصُّحفيِّين: (بدلًا مِن أن يشتغلَ بعض المشايخ بالقَول بأن مَن يَحرِق نفسَه كذا وكذا..؛ فليُفتُوا فتاوى ضدَّ الظُّلم)!! فنقولُ: هذه أُضحوكة! وهذه أحبولة مِن أحابيل الصَّحافة وأهل السِّياسة الذي يُريدون أن يُغطُّوا عوراتِهم بإثارةِ العواطف والحماساتِ الفارِغات التي لن تنفعَ الأمَّة في دُنياها، ولن تردَّها إلى دِينِها.
الله -عزَّ وجلَّ- -وهو أصدقُ القائلين، وأحكمُ الحاكِمين-؛ ماذا يقول في كتابِه العظيم؟ ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا﴾.
هذه معايير الأمان، والتي هي -في الأصلِ- معاييرُ الإيمانِ.
أمَّا إيقاع الأمَّة بِفِتنٍ ومِحنٍ بدعوَى التَّنفيس، وبدعوى المُعارضة، وبدعوى كلمة الحقِّ!! التي لن يستمعَ إليها أولياءُ الأمور بهذه الصُّورة، ولن يتقبَّلوها بهذا التَّحدِّي.. ما دام أنَّها تقدَّم بِاسمِ الإسلام، وتُقدَّم بِاسم الدِّين، وهي -في ذلك كلِّه-جملةً وتفصيلًا- مُخالِفةٌ للدِّين، ومُخالِفةٌ لِكتابِ ربِّ العالَمين، ومُخالِفةٌ لسُنَّة سيِّد المُرسَلين -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-.
ورحم الله مَن قال: «مَن رأى العِبرةَ بِأخيهِ؛ فلْيعتَبرْ».
رضيَ اللهُ عن ابنِ مسعود القائل: «السَّعيدُ من وُعظ بغيره».
صلَّى اللهُ وسلَّم وبارَك على نبيِّ الإسلام-عليهِ الصَّلاةُ والسَّلام- القائل: «لا يُلدَغ مؤمنٌ مِن جُحرٍ واحدٍ مرَّتَيْن».
لا يزالُ كثيرٌ من أفرادِ الأمَّة -وللأسف!- لا يتَّعظون بأنفسِهم، ولا يعتبِرون مِن غيرِهم، ويُلدَغون من الجُحرِ -نفسِه- لا أقول مرَّتين؛ بل مرَّاتٍ وكرَّات، مِن غيرِ إفادةٍ، أو استفادةٍ، أو تنبيهاتٍ، أو تنبُّهات.. مما جعل الأمَّة تزدادُ ضَعفًا، وتزدادُ وهَنًا. النَّبي -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلام- عندما هاجَر؛ هاجرَ إذْ أخرجَه قومُه. لما وقف على أعتابِ مكَّةَ كالمودِّع لها؛ ماذا قال -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-؟ قال: «إني لأعلمُ أنكِ أحبُّ أرضِ الله إلى اللهِ، ولولا أنَّ قومَك أخرجوني منكِ؛ ما خرجتُ»، وهو أعظمُ مخلوقٍ في أعظمِ بلدٍ، وفي أشرفِ زمانٍ، زمانِ النُّبوَّة والرِّسالة والطَّهارة والإيمان والعقيدة.
لكن الشَّريعة تأمرُنا بالمُحافظة على النَّفس.. تأمرنا بصِيانة الإيمان.. تأمرُنا بحِماية المُجتمع.. ﴿أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ﴾.. أمَّا تحت عباءة العواطف، وتحت سِتار الحماسةِ: أن نُضيِّع دِينًا، ولا نَكسِبَ دُنيا؟!! فهذا لا يفعلهُ العُقلاء، ولا أقول: لا يَفعلُه العلماء.. فالعلماءُ الرَّبَّانيُّون يعرفون أن هذه الأمور إنَّما هي دغدغةٌ للعواطِف، قد تكون بابًا إلى دُخولِ نفقٍ لا يَعلمُ نهايتَه إلا ربُّ العالَمين.
نسأل الله -عزَّ وجلَّ- أن يهديَ وُلاةَ أمور المسلمين، وأن يَرُدَّهم إلى الدِّين، وأن ينفعَ بهم رعاياهُم، وأن يُصلِح بهم الأمَّة.
يقولُ الإمامُ أحمد، ويقولُ الإمامُ الفُضَيل بن عِياض: «لو أنَّ لي دعوةً مُستجابة لدَعوتُ بها للسُّلطان»؛ لأنَّ الله تعالى يُصلِح بالسُّلطان ما لا يُصلِح بغيرِه.أمَّا التَّثوير، والإثارة، والثَّورة.. وهذه المشتقَّات، وما يتَّصل بها: فهي -في حقيقةِ أمرِها- دخولٌ في نفقٍ مُظلِمٍ -كما قلتُ، وأكرِّر- قد يكونُ له أوَّل، ولن يكونَ له آخر!!
نسأل الله العظيم ربَّ العرش العظيم: أن يفقِّهنا وإيَّاكم في الدِّين، وأن يرزقنا العلمَ النَّافعَ والعمل الصَّالِح؛ إنَّه -سُبحانه- وليُّ ذلك والقادر عليه.
وصلَّى اللهُ وسلَّم وبارَك على نبيِّنا محمَّد، وعلى آلِه، وصحبِه أجمعين.
وآخرُ دعوانَا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالَمين.