ليس في الركوع والسجود قول محدود
روى مسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه ، عن حذيفة قال: "صليت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم فكان يقول في ركوعه: "سبحان ربي العظيم" وفي سجوده: "سبحان ربي الأعلى" وما مرت به آية رحمة إلا وقف عندها يسأل ولا آية عذاب إلا تعوذ منها".
* دلالة الحديث:
قال الشوكاني : "والحديث يدل على مشروعية التسبيح في الركوع والسجود..."
ثم قال : "... والحديث يدل على أن التسبيح في الركوع والسجود يكون بهذا اللفظ، فيكون مفسرا لقوله صلى الله عليه وآله وسلم في حديث عقبة: "اجعلوها في ركوعكم "، "اجعلوها في سجودكم".
و قال الصنعاني : "الحديث دليل على تحريم قراءة القرآن حال الركوع والسجود، لأن الأصل في النهي التحريم، وظاهره وجوب التسبيح للركوع ووجوب الدعاء في السجود للأمر بهما".
* مذهب المالكية:
قال ابن القاسم : "وقال مالك في السجود والركوع في قول الناس في الركوع "سبحان ربي العظيم وبحمده"، وفي السجود "سبحان ربي الأعلى"، قال: لا أعرفه، وأنكره ولم يَحُدَّ فيه دعاء موقوتا".
وقال ابن أبي زيد في الرسالة : "وقل إن شئت سبحان ربي العظيم وبحمده وليس في ذلك توقيت قول ولا حد في اللبث". اهـ
قال النفراوي الشارح: "فقوله: إن شئت، ليس المراد التخيير في القول وعدمه أصلا، لأن التسبيح ونحوه مستحب، وقيل سنة، فلا يكره تركه" اهـ
*توجيه مذهب المالكية:
يتبين أن مالكا رحمه الله لم ير قول الناس "سبحان ربي العظيم" في الركوع ولا "سبحان ربي الأعلى" في السجود مع أنه لا يرى منعه بالكلية، ولأصحابه أجوبة لذلك نجملها فيما يلي:
الأول: سدا للذريعة، وهي اعتقاد وجوب التسبيح بتلك الصيغتين.
قال ابن عبد البر : "إنما قال ذلك-والله أعلم- فرارا من إيجاب التسبيح في الركوع والسجود، ومن الاقتصار على سبحان ربي العظيم في الركوع وعلى سبحان ربي الأعلى في السجود، كما اقتصر عليه غيره من العلماء دون غيره من الذكر. والحجة له قوله عليه السلام: "إذا ركعتم فعظموا الرب وإذا سجدتم فاجتهدوا في الدعاء"، لم يخص ذكرا من ذكر، وأنه عليه السلام قد جاء عنه في ذلك ضروب وأنواع تنفي الاقتصارعلى شيء بعينه من التسبيح والذكر". اهـ
الثاني: حديث المسيء صلاته ، إذ لم يأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم الرجل بشيء محدد في ذكر الركوع ولا السجود.
قال القاضي عبد الوهاب : "التسبيح في الركوع والسجود غير واجب، خلافا لأحمد وداود، لقوله عليه السلام: "ثم اركع حتى تطمئن راكعا واسجد حتى تطمئن ساجدا" ولم يأمره بذكر فيهما، وقوله: "أما الركوع فعظموا فيه الرب وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء". اهـ
* خـلاصـة:
لم أجد غير هذين الجوابين مما يمكن أن يستند عليه لشرح مذهب السادة المالكية، أما الأول فهو من باب سد الذريعة الذي ذكرنا في قسم الدراسة أن مالكا قد يقدمه على خبر الواحد إذا ارتأى ذلك. وهو كثير في مذهبه كما سنرى. والذي يمكن أن نخلص إليه هو أنه كلما انتفى السبب الذي سُدَّت من أجله الذريعة كلما كان العمل بالخبر أليق، وهكذا يمكن أن نجمع بين أصول المذهب والأخبار الصحيحة. والله أعلم.
والدليل الثاني له وجه مقبول، حيث إن ورود أحاديث تفيد مرة عدم مشروعية الذكر في الركوع والسجود أصلا، وأخرى شرعت فيها أذكار غير التي أوجبها واقتصر عليها الجمهور، قد يدل على أن الأمر أوسع مما حجروه و قصروا عليه، وليس في الركوع والسجود شيء محدود .قال ابن عبد البر : "وكل ذلك واسع لا حرج في شيء منه، ولا يحرج أيضا من تركه، و الحمد لله الذي جعل في الدين سعة، ولم يجعل فيه من حرج". اهـ