الحمد لله و الصّلاة و السّلام على رسول الله و آله و صحبه و من والاه ,و بعد فهذه قصة نبي الله أيّوب عليه و على نبيّنا أفضل الصّلاة و أزكى السّلام ,مستقاة -بتصرف- من كتاب "قصص الأنبياء" للإمام المؤرّخ المفسّر الحافظ أبي الفداء بن كثير :
كان رجل من الروم وهو أيوب بن موص بن رازح بن العيص بن إسحاق بن إبراهيم الخليل ,وهو من الأنبياء المنصوص على الإيحاء إليهم في سورة النساء في قوله تعالى : << إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب >>
قال الله تعالى في سورة الأنبياء :<< وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين 83 فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين 84 >> ,وقال تعالى في سورة ص :<< واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب وعذاب 41 اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب 42 ووهبنا له أهله ومثلهم معهم رحمة منا وذكرى لأولي الألباب 43 وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب 44 >>
قال علماء التفسير والتاريخ وغيرهم : كان أيوب رجلا كثير المال من سائر صنوفه وأنواعه من الأنعام والعبيد والمواشي والأراضي المتسعة بأرض الثنية من أرض حوران ,وحكى ابن عساكر : أنها كلها كانت له وكان له أولاد وأهلون كثير ,فسلب منه ذلك جميعه وابتلى في جسده بأنواع من البلاء ولم يبق منه عضو سليم سوى قلبه ولسانه يذكر الله عز وجل بهما ,وهو في ذلك صابر محتسب ذاكر الله عز وجل في ليله ونهاره وصباحه ومسائه ,وطال مرضه حتى عافه الجليس وأوحش منه الأنيس ,وأخرج من بلده وألقى على مزبلة خارجها وانقطع عنه الناس ,ولم يبق أحد يحنو عليه سوى زوجته كانت ترعى له حقه وتعرف قديم إحسانه إليها وشفقته عليها ,فكانت تتردد إليه فتصلح من شأنه وتعينه على قضاء حاجته وتقوم بمصلحته ,وضعف حالها وقل مالها حتى كانت تخدم الناس بالأجر لتطعمه وتقوم بأوده رضي الله عنها وأرضاها ,وهي صابرة معه على ما حل بهما من فراق المال والولد وما يختص بها من المصيبة بالزوج وضيق ذات اليد ,وخدمة الناس بعد السعادة والنعمة والخدمة والحرمة فإنا لله وإنا إليه راجعون
وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :"أشدّ الناس بلاء الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل" و لم يزد كل هذا أيوب عليه السلام إلا صبرا واحتسابا وحمدا وشكرا ,حتى إن المثل ليضرب بصبره عليه السلام ويضرب المثل أيضا بما حصل له من أنواع البلايا
عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :"إن نبي الله أيوب لبث به بلاؤه ثماني عشرة سنة ,فرفضه القريب والبعيد إلا رجلين من إخوانه كانا من أخص إخوانه له ,كانا يغدوان إليه ويروحان فقال أحدهما لصاحبه :تعلم والله لقد أذنب أيوب ذنبا ما أذنبه أحد من العالمين ,قال صاحبه :وما ذاك ؟ قال :منذ ثماني عشرة سنة لم يرحمه ربه فيكشف ما به ,فلما راحا إليه لم يصبر الرجل حتى ذكر ذلك له فقال أيوب :لا أدرى ما تقول ؟ غير أنا الله عز وجل يعلم أني كنت أمر على الرجلين يتنازعان فيذكران الله ,فأرجع إلى بيتي فأكفّر عنهما كراهية أن يذكر الله إلّا في حق
قال صلّى الله عليه و سلم :وكان يخرج في حاجته فإذا قضاها أمسكت امرأته بيده حتى يرجع ,فلما كان ذات يوم أبطأت عليه ,فأوحى الله إلى أيوب في مكانه : أن << اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب >> ,فاستبطَأَته فتلقّته تنظر ,وأقبل عليها قد أذهب الله ما به من البلاء وهو أحسن ما كان ,فلما رأته قالت :أي بارك الله فيك ! هل رأيت نبي الله هذا المبتلى ؟ فوالله القدير على ذلك ما رأيت رجلا أشبه به منك إذا كان صحيحا ,قال : فإني أنا هو .
قال صلّى الله عليه و سلّم :وكان له أندران أندر للقمح وأندر للشعير ,فبعث الله سحابتين فلما كانت إحداهما على أندر القمح أفرغت فيه الذهب حتى فاض, وأفرغت الأخرى في أندر الشعير الورِق -أي الفضة- حتى فاض" قال الإمام المحدّث أبو إسحاق الحويني في كتابه "صحيح القصص النبوي" ,هذا حديث صحيح .
و عن أبي هريرة رضي الله عنه :عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :"بينما أيوب يغتسل عريانا خر عليه رجل جراد -أي جماعة من الجراد- من ذهب ,فجعل يحثي في ثوبه ,فناداه ربه يا أيوب :ألم أكن أغنيك عما ترى, قال :بلى يا رب ولكن لا غنى لي عن بركتك" أخرجه البخاري في صحيحه
وقوله تعالى :<< اركض برجلك >> أي اضرب الأرض برجلك ,فامتثل ما أمر به فأنبع الله عينا باردة الماء وأمر أن يغتسل فيها ويشرب منها ,فأذهب الله عنه ما كان يجده من الألم والأذي والسقم والمرض الذي كان في جسده ظاهرا وباطنا ,وأبدله الله بعد ذلك كله صحة ظاهرة وباطنة وجمالا تاما ومالا كثيرا ,حتى صب له من المال صبّا مطرا عظيما جرادا من ذهب
وأخلف الله له أهله كما قال تعالى :<< وآتيناه أهله ومثلهم معهم >> فقيل :أحياهم الله بأعيانهم وقيل :آجره فيمن سلف وعوضه عنهم في الدنيا بدلهم وجمع له شمله بكلّهم في الدار الآخرة ,وقوله :<< رحمة من عندنا >> أي رفعنا عنه شدّته وكشفنا ما به من ضر رحمة منا به ورأفة وإحسان ,<< وذكرى للعابدين >> أي تذكرة لمن ابتلى في جسده أو ماله أو ولده فله أسوة بنبي الله أيوب حيث ابتلاه الله بما هو أعظم من ذلك فصبر واحتسب حق فرج الله عنه
وقال الضحاك عن ابن عباس : رد الله إلى امرأته شبابها وزادها حتى ولدت له ستة وعشرين ولدا ذكرا,وعاش أيوب بعد ذلك سبعين سنة بأرض الروم على دين الحنيفية ثم غيروا بعده دين إبراهيم
وقوله تعالى :<< وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب >> هذه رخصة من الله تعالى لعبده ورسوله أيوب عليه السلام فيما كان من حلفه ليضربن امرأته مائة سوط ,فقيل حلفه ذلك لبيعها ضفائرها ,وقيل لأنه عارضها الشيطان في صورة طبيب يصف لها دواء لأيوب فأتته فأخبرته فعرف أنه الشيطان فحلف ليضربنها مائة سوط ,فلما عافاه الله عز وجل أفتاه أن يأخذ ضغثا وهو كالعثكال الذي يجمع الشماريخ فيجمعها كلها ويضربها به ضربة واحدة ,ويكون هذا منزلا منزلة الضرب بمائة سوط ويبرّ ولا يحنث ,وهذا من الفرج والمخرج لمن اتقى الله وأطاعه ولا سيما في حق امرأته الصّابرة المحتسبة المكابدة الصّدّيقة البارّة الرّاشدة رضي الله عنها
وقد ذكر ابن جرير وغيره من علماء التاريخ : أن أيوب عليه السلام لما توفي كان عمره ثلاثا وتسعين سنة وقيل إنه عاش أكثر من ذلك ,وأنه أوصى إلى ولده "حومل" ومن بعده إلى ولده "بشر" بن أيوب وهو الذي يزعم كثير من الناس أنه "ذو الكفل" فالله أعلم .
و السّلام عليكم و رحمة الله و بركاته .