إهمال اللغة العربية هجر للقرآن الكريم
بسم الله الرحمن الرحيم
قال تعالى في محكم التنزيل (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآَنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) [فصلت:26]؛ أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو بمكة إذا قرأ القرآن يرفع صوته، فكان المشركون يطردون الناس عنه ويقولون (لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون)، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أخفى قراءته لم يسمع من يُحب أن يسمع القرآن، فأنزل الله (ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها)[ الإِسراء: 110].
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله (والغوا فيه)، قال: بالتصفير والتخليط في المنطق على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا قرأ القرآن قريش تفعله .
وأخرج عبد بن حميد عن قتادة رضي الله عنه: (والغوا فيه)، قال: يقولون: اجحدوا به وأنكروه وعادوه.
إن القرآن العظيم الذي هو سبب السعادة في الدنيا ورقي في الآخرة جعله الله العظيم رفعة لهذه الأمة وكرامة لها، واستمرار سلطانها وكمال عزتها؛ ولقد عرَّفنا التاريخ أن الأمة المحمدية كلما كانت أقرب إلى كتابها وأحظى بتعاليمه السامية كلما سارت عزيزة علية عظيمة، كما عرفنا أنه بالتخلي عنه والزهد في قوانينه تصير ذليلة مهينة ضعيفة.
وقد أدرك أعداء الحق وخصوم الإسلام سرَّ القرآن في التأثير على القلوب وشعروا بإعجازه العظيم في النفوذ إلى أعماق الوجدان، ورأوا حقيقته في تغيير ما يستحيل عقلا تغييرُه وإحياء ما بكت على مواته البواكي، (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) [الحشر:21].
ومن العجيب الغريب أن تتفق كلمة كفار كل زمان ومكان على أن يحولوا دون سماع الناس القرآن الكريم، إدراكا منهم لهذه الحقائق، وكرها منهم للحق وأهله؛ فقد روى البيهقي في "دلائل النبوة" عن الطفيل بن عمرو الدوسي كان يحدث أنه قدم مكة ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بها فمشى إليه رجال قريش، وكان الطفيل رجلا شريفا شاعرا لبيبا، فقالوا له: إنك قدمت بلادنا وهذا الرجل الذي بين أظهرنا فرق جماعتنا وشتت أمرنا وإنما قوله كالسحر يفرق بين المرء وبين أبيه وبين الرجل وبين أخيه وبين الرجل وبين زوجته، وإنا نخشى عليك وعلى قومك ما قد دخل علينا فلا تكلمنه ولا تسمعن منه، قال: فوالله ما زالوا بي حتى أجمعت أن لا أسمع منه شيئا ولا أكلمه حتى حشوت في أذني حين غدوت إلى المسجد كرسفا فرَقًا من أن يبلغني شيء من قوله. قال: فغدوت إلى المسجد، فإذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائم يصلي عند الكعبة، فقمت قريبا منه فأبى الله إلا أن يسمعني بعض قوله، فسمعت كلاما حسنا، فقلت في نفسي: واثكل أماه، والله إني لرجل لبيب شاعر، ما يخفى علي الحسن من القبيح فما يمنعني من أن أسمع من هذا الرجل ما يقول فإن كان الذي يأتي به حسنا قبلت وإن كان قبيحا تركت، قال: فمكثت حتى انصرف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى بيته، فتبعته حتى إذا دخل بيته دخلت عليه فقلت: يا محمد، إن قومك قد قالوا لي كذا وكذا، فوالله ما برحوا يخوفونني أمرك حتى سددت أذني بكرسف لئلا أسمع قولك، ثم أبى الله عز وجل إلا أن يسمعنيه، فسمعت قولا حسنا فاعرض علي أمرك، قال: فعرض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علي الإسلام وتلا علي القرآن، فلا والله ما سمعت قولا قط أحسن منه، ولا أمرا أعدل منه، فأسلمت وشهدت شهادة الحق...
ولم تختلف أساليب أهل الكفر باختلاف الأزمنة والأمكنة والأمزجة في صد الأمة عن الدين العظيم؛ فهم على وفاق من أن الخيط الجامع لها بالدين هو القرآن الكريم، عالمون أنه مهما ظهرت الفتن بين أهلها وانتشرت الرذيلة في أبنائها ثم وُصلوا بالقرآن شُفو وعفوا وتابوا وأنابوا ورجعوا وذكروا وتذكروا؛ (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) [الإسراء:82].
إذا علمت هذا، عرفتَ السر الحكيم والحكمة اللطيفة في استعمال القرآن الكريم للفظة "سـمع" ومشتقاتها مرتبطة بالقرآن ومتعلقة به؛ لأن السمع أول مراحل التأثر؛ فأهل الكفر والمكر حائلون دون البوابة الأولى للتواصل مع القرآن بمنع المسلمين وغيرهم من مجرد الاستماع.
فقال تعالى (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [الأعراف:204]، فعقب الإنصات الذي هو الغاية الأولى من إنزال القرآن على الاستماع الذي هو الباب الموصل إليه. وإنما عطف "الإنصات" على "الاستماع" لأن الأول لا يغني بدون المعطوف عليه؛ بدلالة قوله تعالى (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ) [الأنبياء:1-2] إذ يمكن أن يكون استماعهم له لا لغرض التذكر؛ فلا ينفعهم أبدا.
كما أن الاستماع المصاحب بسوء النية لا يجدي؛ فيطبع على قلب صاحبه كما قال تعالى (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آَنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ) [محمج:16].
أما الإنصات فجزما لا يكون إلا بعد استماع.
ومن ذلك قوله تعالى (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآَمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا) [الجن:1] فإنما وقعت الهداية للجن بالقرآن بعدما استمعوه. وأكد على هذا المعنى فقال عز من قائل (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآَنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ) [لأحقاف:29].
كما أن الله تعالى أثنى على الذين يحسنون الاستماع للقرآن وأثبت لهم بذلك الهداية بنوره فقال تعالى (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ) [الزمر:18].
ويؤكد القرآن العظيم على أن بمجر الاستماع للكلام القديم يحصل التأثر والتأثير، حتى من غير أهل الإيمان والتصديق فقال تعالى (وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ) [المائدة:82-83].
بل الحق تعالى يحثُّ على إسماع أهل الكفر القرآن وتأمينهم به، لعلمه السابق أن في ذلك منفعة وأي منفعة، فقال تعالى (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ) [التوبة:187].
وأعلمَ أيضا سبحانه أن من دهاء أهل الكفر ومكرهم وبغضهم وعدائهم للحق أنهم يتكلفون عدم السماع ويوهمون أنفسهم ذلك؛ فقال تعالى (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) [لقمان:7].وقال أيضا مؤكدا (وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يَسْمَعُ آَيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) [الجاثية:8].وقال أيضا (وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ) [الأعراف:198].
فالاستماع للقرآن الكريم سبب موصل للاهتداء به؛ ولهذا اجتهد أهل الكفر للحيلولة دون ذلك؛ ومما خططوا له اليوم بدهاء ومكر وذكاء راجَ على أغلب أبناء الأمة؛ لما علموا أنهم لن يحرفوه ولن يزيدوا فيه أو ينقصوه، ولن يخرجوه من بيوت المسلمين أو يشككوا في كونه كلام رب العالمين؛ خلصوا إلى ضرورة تزهيد الآذان دون سماعه؛ وذلك بتغريب الأذن عن الكلام العربي الفصيح وتعويدها على العجمة والعامية؛ فلا تكاد تصبر على الفصحى ولا تنتفع بها.
وأذنٌ غذت من بدايتها على لغة الأعاجم وقلبٌ ألف من أوليته لهجة العوام؛ لا يستطيع الانتفاع بالقرآن ولا الاستماع إليه؛ حتى إن كثيرا من أبناء المسلمين والعرب المتفرنجين مما تلقوا تعلميهم بلغات الأعاجم وتربوا في أحضان الغرب يطلبون قراءة القرآن بالترجمات الأجنبية؛ ويالله والمسلمين؛ أين هم من التعبد بكلماته فلهم بكل حرف منه قراءةً عشر حسنات مما يضيعونه بقراءة ترجماته؛ وأين هم من الالتذاذ ببيانه والانتفاع بأنواره...
ولا زال أعداء الإسلام اليوم يزرعون بذرات الحيلولة دون الاهتداء بالنور المبين بتجميد كل ما له علاقة باللغة العربية الفصحى؛ فمناهج التعليم الحديثة اعترفت أن اللغة العربية –في بلاد العرب والإسلام- لن تساير العصر فجعلتها أحقر المواد العلمية التي يتلقاها الطلبة؛ وإلا فبالله عليكم، مَن مِن الآباء من يُدَعم أبناءه في اللغة العربية؟ وأساتذة اللغة العربية ليسوا مؤهلين لتدريسها ولا لتحبيب الأجيال فيها؛ مما لا يُخفي العداء الكامن للُغة القرآن وللقرآن، أي للدين.
وترى الرجل مفتخرا أمام الناس متى أفصح ابنُه بلهجة العجم وقلدهم في نطقهم وتمثل بهم في خطابهم، وترى وجهه مسودا وهو كظيم من سوء ما بشر به، إذا لحن في كلمة إفرنجية أو أخطأ في تعبير عجمي، ويسارع لتقويمه ويتسابق لتصحيحه خوف المذلة أمام الناس والمهانة، مما لا يقيم مثلَه ولا شطرَه ولا عُشرَه ولا شيءَ منه أصلا إذا هو نصب الخبر أو رفع المفعول به أو جزم اسمَ كان أو نقص أو زاد في اللغة التي كرمها الله؛ لأن هذا في نظره لا يفيده في دنياه؛ ولا يربح وراءه شهادة عُليا ولا منصبا عَليًّا؛ ونسي الناس أن الله تعالى قال (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) [التحريم:2-3].
وترى الإعلام بمختلف أنواعه الإخباري والديني والثقافي والرياضي وغيره لا شعار له إلا القضاء على اللغة العربية وتغييبها في برامجه؛ حتى لا يألفها الناس ويزهدوا في رونقها ويحرموا لذتها؛ فلا يتفاعلوا بعد ذلك مع القرآن الكريم؛ حتى إنني رأيت في يوم من الأيام برنامجا ادعوا أنه للتعاون والدعم والإحسان...استدعت فيه معدتُه أوجها مشهورة وغير مشهورة لتتحدث عن هذا العمل الإحساني الجليل!!!
فتكلم فنان مصري بلهجة عامية مصرية وحاورته بلهجته كما لو أنها قاهرية؛ وتكلم إعلاميٌّ فرنسي بلغة فرنسية متينة فناقشته بلغته كما لو أنها باريسية، وتحدث رجل مسنٌّ مستفيد بلهجة أمازيغية فأجابته بها كما لو أنها سوسية –ولا إشكال في كل هذا ولا لوم ولا عتاب-؛ لكنها لما أخَّرت رأي الدين وكلام القرآن والسنة -كعادتهم في الاستئناس به لا أن يعتمد وتؤصل الأفعال والأقوال بأصوله-؛ وليس هذا مشكلا بقدر ما تفاجأت حينما استهل "الفقيه" كلامه بالبسملة والحمدلة وأخذ يعبر عن رأيه المأخوذ من الوحي باللغة العربية كما تقتضيه أصول الخطاب السليم، فقاطعته المذيعة واعتذرت له بأنها تريد أن يفهم الناس كلهم كلامه وطلبت منه أن يتكلم باللهجة العامية، لكنه لم يبال بها وأعاد كما بدأ فقاطعته ثانية واعتذرت بالحجة نفسِها!
فقلت في نفسي وأنا حزين متأسف: كأن الناس يفهمون لغات الدنيا كلها ولهجاتها إلا لغة القرآن، وكأن أكثر اللغات ظلما وظلمانية وتعقيدا هي اللغة العربية؟ ولم تصنع المذيعة هذا عبثا إنما هو وليد مؤامرة حيكت على الإسلام ولم تشعر فانخرطت المسكينة فيها؛ كما انخرط فيها من غير شعور أيضا بعض أساتذة جامعيين ودعاة إسلاميين، ومثقفين...لا يشعرون أنهم يسهمون في القضاء على لغة القرآن الكريم، لا يشعرون أنهم بتبنيهم مناهج الغرب في المنطق ينسلخون من هُويتهم التي بها عزتهم وبدونها مذلتهم، ألا يخافون مما قد وقعوا فيه وهو يبصرون أن ينطبق عليهم وصف (لا من هؤلاء ولا من هؤلاء)؟
فليستفق المسلمون أن اللغة العربية يواجهها خطر العولمة وخطر اللغة الواحدة المهيمنة؛ وهي الخطر الذي كانت له بوادر وبدايات قبل أزمنة طويلة في إطار الحملة الصليبية التي أكملتها الحملة الصهيونية على الإسلام والمسلمين؛ قال الأستاذ عيسى أمين صبري في مقالة له بعنوان "العربية لغة الدين والدنيا": "وقد أوكل الاستعمار الإنجليزي لبعض أعوانه هذه المهمة في مصر، فكانت دعوة وليم ويلكوكس لاتخاذ العامية لغة للتأليف والتعليم، ولكونه مهندساً للري، فقد حاول هذا العميل تغليف دعوته تلك بثوب علمي. وقد أثار هذا الموضوع في محاضرة ألقاها في نادي الأزبكية سنة 1893م حيث كان السؤالُ: لِمَ لمْ توجد قوة الاختراع لدى المصريين إلى الآن؟ مدارَ تلك المحاضرة. وقد عزا ويلكوكس عدم وجود هذه القوة إلى العربية الفصحى! وتبع ويلكوكس هذا قاضٍ إنجليزي آخر هو سيلدون ولمور الذي نشر كتاباً عام 1901م أسماه العربية المحكية في مصر. وكان د. ولهلم سبيتا قد ألف كتاباً مماثلاً. وأيا كانت وسائل هؤلاء، فقد كان الهدف الذي يسعون إليه واحداً، وهو سلخ المسلمين عن دينهم وتراثهم المشرق. وللأسف فقد جاء من بعد هؤلاء المستعمرين المبشرين، بعضُ العرب في مصر والمغرب ولبنان، ممن يعدون أذيالاً للاستعمار، أو ممن خدعوا بهذه الدعوات المضللة. ثم اتخذ الهجوم على اللغة العربية الفصحى شكلاً آخر تمثل في الدعوة إلى نبذ الحروف العربية، واستبدال الحروف اللاتينية بها، كما فعل كمال أتاتورك عندما ألغى الخلافة سنة 1924م. وكان من دعاته د. دواد الحلبي الموصلي، وعبد العزيز فهمي، وغيرهما. وقد قوبلت هذه الدعوات وأمثالها بالاستنكار الشديد من كل الغيورين على هذه اللغة، فذهبت أدراج الرياح، ولم تصغ إليها سوى آذان حاقدة لا تأثير لها.
يتضح من هذا العرض السريع لمحاربة اللغة العربية، أن الأهداف التي سعى الاستعمار لتحقيقها كانت دينية في المقام الأول، وكذلك عزل العرب وتفرقتهم كل في بيئته، ومن هنا نفهم استيقاظ الدعوات الإقليمية المنتنة –بوصف الرسول صلى الله عليه وسلم- من فرعونية، وآشورية، وبربرية، وفينقية...اهـ
وكما قال هذا الباحث مشكورا فإن الأمر يتعدى اللغة العربية إلى محاولة القضاء على الدين؛ ونحن إذ نقول بأنها محاولات فاشلة من أساسها وخاسرة من بداياتها إذ اللغة هي القرآن والقرآن محفوظ (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) [الحجر:9] فهي محفوظة بحفظ الله لكلامه؛ إلا أن الخوف من أبناء هذه الأمة أن يُحسبوا على الساعين للقضاء عليها أو المسهمين في إهمالها وإلغائها؛ الخوف أن يصير القرآن غريبا بين أهله بل لا أشك أن هذا أحد الأوجه المفهومة من قول الرب الكريم في كتابه المجيد (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآَنَ مَهْجُورًا) [الفرقان:30]؛ كيف لا يكون كذلك والأمة هاجرة للغة القرآن وقانعم بلغة أعداء الفرقان؟
وهذا بحث نفيس الدكتور نظمي خليل أبو العطا موسى أنقله بطوله لعل الله ينفع به، قال بارك الله فيه: " المبدأ الاستعماري القديم هو "فرّق تسد"، أي اجعل هناك خلافات بين الناس والشعوب لتفرّقهم فيسهل عليك سيادتهم واستعمارهم واستغلالهم وإذلالهم، ولتحقيق هذا المبدأ الاستعماري الخطير وضع الاستعمار الحدود الجغرافية كما هو الحال في اتفاقية (سايكس - بيكو) وتعمد إيجاد مناطق حدودية غير محددة المعالم لتصبح موضعا للشقاق والتنازع والفشل.
ومن أساليبه الاستعمارية إحياء النعرات والخلافات القبلية والمذهبية، وتدعيم العصبية الجاهلية، وإحياء اللهجات العامية واللغات المحلية لفصل الناس عن بعضهم بعضا، وقد دعا "سلامة موسى" من قبل إلى استخدام اللهجة العامية المصرية وتحويلها إلى لغة عامية رسمية تكتب بها المناهج والكتب وتستخدم في المراسلات والبحوث والدراسات بهدف فصل المصريين عن اللغة العربية والقرآن الكريم وباقي الدول العربية، ودعا "عبد العزيز فهمي" إلى استخدام الحروف اللاتينية في كتابة اللغة العربية واللهجة المصرية، وقد فعل "كمال أتاتورك" ذلك مع الأتراك ما فصلهم عن تراثهم التركي الإسلامي المكتوب بالحروف العربية. وقد فشلت دعوتا سلامة موسى وعبد العزيز فهمي وظلت مصر عربية إسلامية.
والآن توجد دعوة خبيثة على موسوعة "ويكبيديا" للكتابة باللغة العامية، ومن يفعل ذلك ويشجع عليه ويستخدمه يفصل نفسه عن لغة القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، ويصعب عليه بعد ذلك القراءة والكتابة باللغة العربية.
وتقوم المدارس الأجنبية الخاصة (مدارس اللغات) بنفس الدور الخبيث مع أطفالنا وأبنائنا في التعليم العام خاصة في مراحله الأولى التي يتم فيها تهذيب اللسان وتعويده إخراج الحروف العربية من مخارجها الصحيحة , كما تقوم بعض المحطات الفضائية والمواقع الإلكترونية بنفس الدور الخبيث والحاقد على اللغة العربية والإسلام .
على شبابنا بالذات التنبه لما يحاك لنا في الخفاء، خاصة من غير المسلمين، والعَلمانيين (بفتح العين)، والصهاينة المسيحيين، والمحافظين الجدد، من التخطيط لتضييع اللغة العربية وتفريقنا بتحويل اللهجات المحلية إلى لغة للكتابة في الصحف وفي الإذاعات والفضائيات والمناهج الدراسية.
اللغة العربية أقوى لغة في تاريخ البشرية، اختارها الله سبحانه وتعالى لمعجزته المكتوبة والمقروءة (القرآن الكريم) وللسنة النبوية الصحيحة، وهي لغة جميلة ميسرة غنية وثرية.
علينا استخدام لغة عربية ميسرة في رسائلنا القصيرة (اس إم اس)، وفي كتاباتنا الصحفية، وفي مناهجنا الدراسية، والبعد عن الكلمات والعبارات العامية والمؤامرة الاستعمارية
اليهود أحيوا اللغة العبرية الميتة وكتبوا مناهجهم بها، ويستخدمونها في مؤتمراتهم الصحفية، وفي كتابة أسماء الشوارع ولافتات المدن والمرور، فمن العيب علينا أن نخضع بأيدينا لمخططات أعدائنا، أعداء الإسلام بالذات، ونحارب لغتنا العربية الجميلة، لغة القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، ولغة أهل الجنة بإذن الله.
غير المسلمين ليس عندهم معجزة كالقرآن بلغتهم، وخاصة في ديارنا العربية، لذلك يريدون منا أن نتخلى عن هويتنا ولغتنا العربية ونهبط إلى درك اللغة العامية ليكون اسم الله (القادر) الآدر والجادر، واسم الله (القهار) الأهار، واسم (السوق) السوء، و(المحبة) المهبة، و(الأنجال) الأندال، و(الجهال) اليهال، وهكذا تضيع لغتنا العربية بهذه اللغة العامية غير القابلة للفهم لغيرنا من العرب. هذا مخطط صليبي - صهيوني استعماري خطير علينا التنبه إليه والتحذير منه.اهـ
قال عدنان بن عبد الله زهار: وليتذكر القارئ قول الرب العظيم (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآَنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) [فصلت:26]؛ ليُعَظِّمْ الأمر في قلبه وليخَفْ على دينه وليُحيِ اللغة في نفسه وأهله وبيته وإخوانه؛ وليشرع في تعلم مبادئ اللغة وليعلمها أبناءه...والله ولي التوفيق.